نحو تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي..
يتسم المشهد الاقتصادي والمالي في بلادنا بعد الثورة بالضبابية وبتدهور المؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية. وفي الوقت الذي تذهب فيه التصريحات الرسمية وخاصة تلك الصادرة عن رئيس الحكومة الى التسويق لانتعاشة اقتصادية ولبوادر انفراج، تصطدم هذه التصريحات وفي كل مرة بقرار مجلس إدارة البنك المركزي بالترفيع في نسبة الفائدة المديرية كردة فعل استباقية للحد من مزيد انزلاق المؤشرات من جهة، وبإحصائيات المعهد الوطني للإحصاء التي تبشر بمزيد تدهور المقدرة الشرائية من جهة ثانية.
وفي ظل هذه المتناقضات، وقف الرأي العام التونسي بعد قرار مجلس إدارة البنك المركزي الأخير على خطورة القانون الأساسي للبنك المركزي عدد 53 لسنة 2016 مؤرخ في 25 أفريل 2016 الذي يكرس استقلاليته عن السلطة التنفيذية من جهة، ويمنع عنه تمويل ميزانية الدولة بطريقة مباشرة ومنح هذا الدور للبنوك الخاصة في الساحة المالية الوطنية الذي لا يخلو من ضغوط تضخمية إضافية على الاقتصاد.
هذه الازدواجية وهذا التضارب بين الواقع من جهة، وقرارات السلطة النقدية من جهة ثانية، واحصائيات المعهد الوطني للإحصاء من جهة ثالثة، والتصريحات الحكومية من جهة رابعة، لا تتعلق بالسياسات الكلية بل تشمل أيضا السياسات القطاعية التي تقف وراء تخبط كل القطاعات ووراء الصعوبات المالية التي أفقدتها القدرة على مواجهة المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية.
قطاع النسيج والملابس الجاهزة لا يشذ عن هذه القاعدة ليحتل هذه الأيام الصدارة في اهتمامات حكومة الشاهد التي تسوّق له، على غرار النظام السابق، على أنه مفخرة الاقتصاد الوطني باعتبار مساهمته في التشغيل والتصدير، في حين أنه يمر بصعوبات حادة دفعت بجامعة النسيج الى الانسلاخ عن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بسبب صمته تجاه الأضرار التي لحقت به نتيجة التوريد المنظم والعشوائي الى جانب تراجع الطلب في السوق الأوروبية.
هذه الصعوبات التي أفرزت افلاس عديد الشركات وفقدان الآلاف من مواطن الشغل كانت من المفروض أن تدفع حكومات ما بعد الثورة بما في ذلك حكومة الشاهد الى مراجعة السياسة القطاعية وإرساء استراتيجية وطنية تثبت القطاع في محيطه الداخلي وتفتح أمامه أبواب أسواق جديدة تستجيب لأولوياتنا التنموية وتقطع مع التبعية لنظام «المناولة» الذي انخرطت فيه بلادنا منذ سبعينات القرن الماضي وأثبتت الأرقام والاحصائيات فشله في مستوى توفير مواطن شغل جديدة تتميز بالكفاءة العالية وتختلف عن تلك المتوفرة في الفترة السابقة. كما أثبتت الأرقام فشله في مستوى التصدير وتوفير العملة الصعبة باعتبار أن الشركات الناشطة في القطاع أغلبها ينشط تحت نظام التصدير الكلي وغير مقيمة بما يجعلها غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها حسب قانون الصرف وهو ما عمق عجز ميزان الدفوعات وتفاقم تراجع الاحتياطي من العملة الصعبة.
فبعد تجربة استغرقت أكثر من 47 سنة، نشط خلالها قطاع النسيج والملابس في اطار قانون أفريل 72 الذي تم التسويق له آنذاك بالقانون المعجزة الذي وفر مواطن شغل وساهم في نمو الصادرات التونسية نحو السوق الأوروبية، وبعد ثماني سنوات عن ثورة أسقطت نظاما سياسيا عمّق التفاوت الجهوي والبطالة والفقر، يخرج اليوم رئيس الحكومة للتنويه بهذا القانون وبمزاياه على الاقتصاد الوطني ليعتبره أهم اجراء اقتصادي تم اتخاذه خلال الخمسين سنة الماضية ، كما كان، حسب رأيه، وراء تطور وازدهار قطاع النسيج في بلادنا، ليعلن في الكلمة التي ألقاها بمناسبة افتتاحه للمؤتمر السنوي للجامعة التونسية للنسيج المنعقد بسوسة يوم 27 جانفي 2019 ، عن حاجة البلاد لصياغة نوع جديد من قانون 72 يكون له نفس التأثير على مستوى التغيير الجذري الإيجابي للاقتصاد ويكون، حسب رأيه، متأقلما مع خصوصيات المرحلة الاقتصادية الجديدة... ليمرر بكل أريحية أفكارا فاشلة وسياسات تقف وراء تدمير نسيجنا الصناعي تحت غطاء نجاحات واهية ليعاد انتاجها من جديد تحت عنوان التحيين في «اطار التأقلم مع خصوصيات المرحلة الاقتصادية الجديدة» التي تم التمهيد لها بقوانين وتشريعات على غرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي تم ارساؤه لتكريس تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي لفائدة القطاع الخاص في جميع المجالات.
الانطلاق كان بقطاع النسيج والملابس الجاهزة، ليعتمد، أي قانون الشراكة، في الأيام القليلة القادمة في قطاعات التربية والتعليم، والصحة، والنقل، والكهرباء، والماء، والخبز أيضا، باعتبار وجود ديوان الحبوب في القائمة التي ضبطها صندوق النقد الدولي والمعنية بقانون الشراكة.
في هذا السياق شهدت القصبة يوم الخميس الماضي 21 فيفري 2019 التوقيع على الميثاق القطاعي للشراكة بين القطاعين العام والخاص في قطاع النسيج للفترة 2019 – 2023 والذي سيمكن حسب الخطاب الرسمي من خلق 50 ألف موطن شغل في أفق سنة 2023 .
ما يلفت الانتباه في هذا المستوى امعان هذه الحكومة في استبلاه الشعب التونسي الذي لا يزال يضحي من أجل غد أفضل مع أحزاب ائتلاف وحكام وقف تفكيرهم في سبعينات القرن الماضي وجاء بهم الى السلطة ليعيدوا انتاج الفشل وأسباب التخلف عن الالتحاق بركب البلدان النامية والأسواق الصاعدة.
ان اعلان رئيس الحكومة عن حاجة الاقتصاد التونسي الى صياغة نوع جديد من قانون 72 للقرن الحادي والعشرين هو اعلان عن عقم فكري وحضاري وإفلاس سياسي ممنهج خطط له في قمة مجموعة الثمانية بدوفيل المنعقدة يومي 26 و27 ماي 2011 تحت رعاية فرنسا في إطار مخطط خماسي شكّل مضمون الوثيقة التوجيهية للمخطط الخماسي للتنمية 2016 - 2020 الذي يعتبر اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق والإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي العمود الفقري والمرجعية للسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية للبلاد للمرحلة القادمة.
في هذا السياق جاء المحور الفرنسي الأوروبي – الدولي الذي تمثله المؤسسات المالية الدولية، بعفيف شلبي الى القصبة على راس مجلس التحاليل الاقتصادية الذي يقدم للحكومة المقترحات والسياسات لدعم عملها في المجال الاقتصادي.
رئيس الحكومة كشف عن السياسة القطاعية التي ستتبعها حكومته بالنسبة لقطاع النسيج، والتي ستعمم على بقية القطاعات، وذلك في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر السنوي لجامعة النسيج، هذه السياسة لا تختلف في أهدافها وآلياتها ومضمونها عما كان سائدا قبل الثورة خاصة وأن مهندسها هو عفيف شلبي الذي تولى حقائب وزارية في النظام السابق وكان من المدافعين الشرسين عن برنامج التأهيل الصناعي الممول من قبل الاتحاد الأوروبي والذي نجني اليوم ثماره من تصحر صناعي تترجمه نسبة البطالة العالية في صفوف خريجي الجامعات، كما يعتبر من المدافعين الشرسين عن قانون أفريل 72 الذي يعمل اليوم على الترويج له في نسخة جديدة تبناها الشاهد وحكومته تحت أنظار مجلس نواب منتخب جاء به الشعب ليدافع عن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ليتحول الى شاهد على إعادة انتاج سياسات صممت في اطار سياق تاريخي وسياسي واقتصادي معين جاءت الثورة للقطع معه وإرساء سياسات حقيقية وطنية تستند الى الدستور الجديد والى مقومات السيادة الوطنية.
ملامح السياسة القطاعية كشف عنها رئيس الحكومة في كلمته وهي عبارة عن اجراءات افقية وليست سياسات بالمفهوم التقليدي للكلمة، تتعهد الحكومة بإقرارها في إطار برنامج عقود تنافسية بينها وبين القطاع الخاص كما ضبطها قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص مقابل تعهد القطاع الخاص بتحقيق عدد من الأهداف متمثلة في التشغيل والاستثمار.
ما يلفت الانتباه في هذا المستوى انخراط الحكومة التام في إعادة انتاج سياسات لم تخضع للتقييم من قبل جهات مستقلة بعيدة عن مصالح اللوبيات الداخلية والخارجية على غرار قانون أفريل 72 الذي شكل موضوع ملف تم ايداعه لدى هيئة الحقيقة والكرامة من قبل عدد من الخبراء الاقتصاديين على أساس انتهاكه للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملين بالقطاع مدعمين هذا الملف بالدراسات التي أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المجال.
فعكس ما تروج له الجهات الحكومية والرسمية، لا يمكن اعتبار قانون افريل 72 قانونا مرجعيا حيث شكل عائقا أمام تطور قطاع النسيج الذي بقي أسير نظام المناولة.
فقد كان من المفروض أن يغطي هذا النظام مرحلة انتقالية لتموقع القطاع في السوق الداخلية والأسواق الخارجية في اتجاه التحرر منه وخلق منتوج نهائي وطني يحمل العلامة التجارية التونسية، الا أن المصالح الخارجية نجحت في مزيد تثبيته على حساب أولوياتنا التنموية.
واليوم وتحت عباءة قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص يخرج مجلس التحاليل الاقتصادية «الوصفة السحرية» ممثلة في قانون افريل 72 ويوزع الأوهام بخلق 50 ألف موطن شغل إضافي في أفق سنة 2023 في ظل أزمة مالية خانقة يمر بها الاقتصاد التونسي تترجمها نسبة تضخم مرتفعة ونسبة فائدة بنكية في ارتفاع خيالي وارتفاع لا متناه لأسعار المحروقات ...كلها عوامل مدمرة للقدرة التنافسية، باستثناء قيمة دينار مرشحة لمزيد الانزلاق في اتجاه الاندثار لتتحول السوق التونسية الى مقاطعة تابعة للاتحاد الأوروبي.
ان التحسن الذي يتحدث عنه رئيس الحكومة في صادرات قطاع النسيج في بداية سنة 2019 لا يمكن أن نجد له أثرا لا في ميزان الدفوعات ولا في الاحتياطي من العملة الصعبة باعتبار أن صادرات الشركات غير المقيمة والخاضعة لنظام التصدير الكلي والتي هي غير مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها الى تونس تهيمن على صادرات القطاع حيث بلغت في شهر جانفي 2019 حوالي 851.3 مليون دينار مقابل 17.1 مليون دينار سجلتها الشركات المقيمة والخاضعة للنظام العام والمطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها.
ان المقاربة التي تبنتها حكومة الشاهد على خلفية التخلي التدريجي للدولة عن دورها الاقتصادي من خلال قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص والذي سيشمل في مرحلة قادمة بقية القطاعات مثل التربية والتعليم والصحة والكهرباء والماء والحبوب...والتي تتطلب تدخلا من الدولة باعتبارها الجهة الوحيدة الضامنة لإعادة التوزيع العادل للثروة بما يؤمن الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن المنصوص عليها في الدستور الجديد لتكون حكومة الشاهد أول حكومة بعد الثورة تؤسس لانتهاك الدستور من خلال انتهاكها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن بإعادة انتاجها لقانون افريل 72 واعتماد قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.