من يتابع المخاض السياسي الطويل لتشكيل حكومة إلياس الفخفاخ يجد صعوبة في فهم موقف النهضة وأسباب تعطيلها لمسار يبدو بالعين المجرّدة بأن معظم الفرقاء السياسيين يجدون فيه تقاطعات. يبدو الأمر مثل لغز محير، لكننا لو تمعنّا في السياقات ومنطق قياديّي النهضة في إدارة الأمور سنعثر على عناصر إجابة عديدة. بداية علينا أن نتساءل عن المحرك الأساسي للفعل السياسي لحركة النهضة؟
الحزب الأغلبي في برلمان ما بعد 2019 لا يزال يتحرّك بمنطق "التوجّس" من كل المحيطين به. لا يزال العقل الباطن للجيل الأول من قيادات وقواعد النهضة (وسرّبه للأجيال اللاحقة) يصوّر له بأنه دائما "مطارد"، لذلك فهو يبحث دائما عن معاهدة سلام مع الأطراف المحيطة به في المشهد، حتى وإن كانت هشة لأسباب انتخابية أو على مستوى السمعة السياسية.
يبدو راشد الغنوشي أكثر من يمثّل هذا التوجه، وهو الذي عاش معظم حياته في المنفى، ولعلنا نقف هنا على أحد أسباب انفصال القرار السياسي الذي يمسكه أصحاب الشرعية النضالية عن القواعد التي هي في جزء كبير منها وخصوصا الشباب منهم ممن فتح أعينه في السياسة على واقع ما بعد 2011. بسبب هذا الإحساس الهوسي، أصبح النهضاويون يطلقون النار على الجميع، القريب قبل البعيد والصديق قبل العدو.
هناك شعور مسيطر ويقين بأن هذه المنهجية هي وسيلة بقاء، ونعرف من يستشعر وجود خطر يهدد بقاءه تكون ردود فعله أشرس وأكثر عشوائية، يسري ذلك على الإنسان مثلما يسري على الحيوان. من جهة أخرى، ولأول مرة بعد الثورة تجد الحركة نفسها خارج رأسي السلطة التنفيذية ودون ضمانات أو معاهدة سلام ومهادنة مع الطرف المقابل.
يبدو أن صعود قيس سعيّد إلى الرئاسة وبشرعية انتخابية متينة قد زاد في شعور التوجّس، فالرجل كما تبيّن غير قابل للتطويع أو المفاهمات تحت الطاولة كما جرى الأمر في السنوات السابقة مع الباجي قائد السبسي. كل هذه العوامل تفسّر "لغز" إصرار النهضة اليوم على "قلب تونس" كشريك حكم، رافعة شعار عدم الإقصاء، وهو للأسف من باب "كلمة حق أريد بها باطل"، انطلاقاً من نفس منطق التوجّس.
في المقابل حزب "قلب تونس" كان ولا يزال يمثل لمعظم نوابه "زورق حرقة" إلى داخل البرلمان، وكان بيّنا أنهم لن يصمدوا أمام رياح الهجرة إلى حزب "تحيا تونس" أو مكوّنات أخرى لهم قاعدة انتماء أكثر متانة من خطاب نبيل القروي الذي اهترأ منذ الرئاسية، ما يبطئ هذه الهجرة الآن هو الطمع في الحكم وهو المقابل الذي تريد النهضة أن تقدّمه لهؤلاء كي يصبحوا خزانها السياسي الذي تطمئن إليه، النهضة تعلم علم اليقين أن المنتمين إلى "قلب تونس" لا يستطيعون العيش خارج مياه السلطة، فهي الملجأ الآمن الوحيد التي تقيهم من ملاحقات قضائية من أجل تهم الفساد المالي والسياسي، وهو ما تغريهم به النهضة.
على مستوى آخر، يتبدّى للنهضة بأن مشاركة "قلب تونس" في الحكومة تضمن بقاء مشتقات حزب "النداء" منقسمين، وهو ما يتحقق فقط في حال المشاركة حيث تفترق مصالح نواب "قلب تونس" عن مصالح نواب "تحيا تونس" فلا يعاد تشكيله كاملا تحت خيمة يوسف الشاهد إن كان هو في السلطة و"قلب تونس" خارجها وهذا يضعف النهضة ويقوي شوكة رئيس الحكومة الحالي الذي أظهر برودة تجاه النهضة في سبيل أن يخيط كساءا سياسيا جديدا متصالحا مع الثورة والرئيس قيس سعيد.
سيناريو يغذي هاجس التوجس، فبعملية حسابية بسيطة، تجد النهضة نفسها أمام فرضية يكون فيها الشاهد بعد فترة زمني صاحب أكبر كتلة نيابية، وهكذا ستكون قد خسرت الكثير من متراسها البرلماني، وهي السلطة الوحيدة التي بقيت في يدها.
أخيراً، بالتقارب مع "قلب تونس"، تتصدّى النهضة إلى خطر آخر، يتمثّل في أن تكون رهينة لتوجهات أحزاب بخلفيات مغايرة لها في عدة نقاط مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب وبدرجة أقل تحيا تونس، فعندما يكون حزام الحكومة محدودا يصبح انسحاب أي حزب مهددا لديمومة الحكومة وهو ما يجعل الأحجام السياسية تتمطّط وتتوسّع بفضل هذه الورقة، في حين أن دخول القروي وتوسيع الحزام السياسي يُسقط هذه الورقة عن الأحزاب المذكورة ويرجعها لحجمها الانتخابي. في كل هذا، وضمن كواليس اللعبة السياسية..
لا نجد أثراً للمصلحة العامة، النهضة بسلوكها المتوجّس والسياسوي قد تكسبت بعض المواقع أو تضمن المواقع التي سبق وأن كسبتها، ولكن تونس في مجملها لن تكون رابحة بحال.