دع الثقافة وشاهد التلفزيون

Photo

نحن نعيش في عصر جديد فيه فسحة ومجال لكل التنويعات على فكرة الوعي والاهتمام وفي المغزى من الثقافة، عقد الماضي يجب أن نتركها في الماضي.

نقف في حيرة من الثقافة السمعية/البصرية أو الثقافة التلفزيونية تحديدا. ثمة موقف عدائي متأصل لدى المثقفين، ومنهم الأدباء، من هذه الثقافة. لا ينكرون انتشارها وشعبيتها، ولكنهم لا يحبونها.

ثمة أسباب نفسية وتاريخية وعملية للموقف.

المثقف العادي يحب القلم والورق. هاتان واسطتان يستطيع التعامل معهما بسهولة. يقرأ من كتاب ورقي ويكتب على ورق. حتى في عصر الكمبيوتر، يصرّ أغلب الكتّاب على وضع كلمة “بقلم” أمام أسمائهم. الارتياح النفسي والاطمئنان والعلاقة الزمنية بهذه الأدوات البسيطة المؤثرة، تمنحه الثقة بأن مجال الخطأ قليل.

تاريخيا أيضا وجد المثقف نفسه بعيدا عن صنعة التلفزيون. التلفزيون بالنسبة إلى المثقف هو إعلام وترفيه، والعاملون في التلفزيون هم من أشباه السياسيين وأشباه الصحفيين وأشباه المثقفين. ما لهؤلاء ومهنة الثقافة والنقد؟ المثقف لا يحتاج إلى أكثر من كتابه وقلمه وأوراقه ومكتب في ركن منزوٍ ليقدم منتوجه. التلفزيوني لا يتحرك إلا بفريق ويحتاج إلى أبنية وأستوديوهات وإضاءة وكاميرات وهرج ومرج لكي يقدم 5 دقائق على الشاشة.

الجانب العملي لا يقل أهمية. المثقف مثلا يحترم السينما لأنها تشبع الناظرين بصريا وسمعيا. السينما شيء فاخر منذ زمن الأسود والأبيض وصولا إلى عصر الألوان والعرض الواسع “سكوب”. لكن التلفزيون ظلّ معنا لسنوات بشاشة صغيرة ونوعية صورة بائسة. وعلى مدى عقود، باءت بالفشل الكثير من المحاولات التقنية لتكبير الشاشة وتحسين نوعية الصورة فيها. ولم تمنح الألوان التي دخلت على التلفزيون تلك الصورة ثراء محسوسا، وأمعنت النوعيات الرديئة من أشرطة الفيديو المستنسخة في ترسيخ صورة التلفزيون كناقل غير أمين للصورة والصوت والإنتاج الفني. هل جرّبت أن تشاهد فيلما سينمائيا بانوراميا على شاشة تلفزيون 20 بوصة؟ ستحبط بالتأكيد وستختفي من أمامك الكثير من التفاصيل.

لكن التلفزيون فرض نفسه، بشعبيته أولا وبالتقنيات المتقدمة التي وفّرها خلال العقدين الماضيين. هذا شيء لا يمكن للمثقفين تجاوزه. التلفزيون اليوم هو كتاب الجماهير، وشاشة التلفزيون البراقة التي تقدم الصورة الجميلة هي سينما البيت.

المثقف ينتظر أن يهتم القارئ بمطالعة رواية عظيمة مثل رواية “الحرب والسلام” لليو تولستوي. القارئ ينظر في خياراته، بين تمضية ست ساعات لمشاهدة ستّ حلقات من الإنتاج شبه السينمائي بتقنية رقمية وبتفاصيل أخّاذة وبين النظر إلى كتاب سميك من 1300 صفحة يتردد في مدّ اليد إليه ليبدأ بقراءته.

المثقف ينتظر من القارئ أن يغوص بالرواية وأن يرسم في مخيلته تلك المناظر الربيعية الجميلة أو الدماء التي تسيل على الثلوج. القارئ يثق بقدرة طاقم تلفزيوني بروح سينمائية في أن يحوّل الرواية إلى سيناريو ومشاهد وحوارات توفر عليه الوقت والجهد الذهني. المثقف يريد للقارئ أن يقف عند الرواية ليفهم عصرها وروحها وأن ينغمس فيما تعنيه فكريا وثقافيا خصوصا في عصر كتابتها، عصر بدايات الرواية الحديثة. القارئ ينظر فيرى كمّا هائلا من الروايات التي تنزل الأسواق أسبوعيا ولن يجد الفرصة لقراءتها فيذهب مختارا إلى مشاهدتها على شاشة التلفزيون وهو مستلقٍ على الكنبة آخر المساء.

يعترف المثقف بهزيمته ضمنيا لينسب الأمر إلى أن القارئ صار مشاهدا وأنه اعتاد التسلية والترفيه (أو حتى التفاعل الدرامي الباكي). ولكنه يسأل: ماذا عن ما بعد الترفيه والتسلية؟ نحن لا نقرأ روايات وقصصا فقط. ثمة مكتبات كاملة عن التاريخ والفن والعلوم والطبيعة والصحة. هذه كلها تدخل في إطار الثقافة العامة وأغلب ما تقدمه هذه الكتب غير مطروح بما يكفي من الدقة أو الوعي في الصحافة اليومية وفي المقالات العابرة.

يكتشف المثقف، على الأقل في الغرب، أن التلفزيون لا يقل اهتماما بما ليس تسلية وترفيها. البرامج الاستقصائية والعلمية والفكرية تجد طريقها من خلال نظرة متجددة إلى ما يسمّى بالوعي الشعبي بالأشياء. التلفزيون يستقطب حتى أشهر الكتّاب والعلماء والأطباء والمهتمين بالبيئة وعالم الحيوان لكي يعيدوا تقديم نتاجهم بصريا عبر التلفزيون. كم واحد منا سيقرأ كتابا عن القرود في أدغال الأمازون؟ لكن لا شك أن الكثير منا سيجد متعة كبيرة واهتماما لا بأس فيه بمتابعة برنامج يطارد تلك القردة بكاميرا عالية الدقة وبمايكروفونات تلتقط دبة النملة على الأرض.

هل هناك من يجادل بشعبية وعمق برامج محطة مثل ناشيونال جيوغرافيك التي تقدم برامج من عالمنا تهتم بالحيوان والطب وحوادث الطائرات والفضاء بنفس العمق والدقة التي يمكن أن نجدها في كتاب “أصم” تعريفي بالموضوعات؟

مثقفنا في حاجة أن يحسم حيرته. نحن نعيش في عصر جديد فيه فسحة ومجال لكل التنويعات على فكرة الوعي والاهتمام وفي المغزى من الثقافة. عقد الماضي يجب أن نتركها في الماضي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات