أن يختلف ويتقاتل البسطاء ممن تحركهم الطائفية والمناطقية والعرقية، فهذا مفهوم. الغرائزية تستطيع أن تتسلل بسهولة إلى عقول البسطاء. الأمثلة كثيرة على قدرة زعامات ساذجة في تحريك جموع البسطاء وتوجيههم كما تريد. لا تحتاج هذه الجموع إلا كلمات تستحث الغرائز لتجد مدا “جماهيريا” وصاحب قضية قادرا على إحداث الكثير من الضرر.
الغرائز، من حبّ وكراهية أو تخويف من الآخر أو ترغيب بفكرة، تسهّل المهمة. جرّب أن توزع مع الكلمات بعض الطعام والحلوى، فتتظافر غرائز العقل مع غرائز البطن وشاهد النتيجة. مذهلة! جرب أن تتحدث عن الحرب والدم والانتقام، سترى عجبا.
لكنهم بسطاء. كيف نستطيع أن نلومهم. مقدما حكمنا عليهم بالسذاجة والانقياد الأعمى. فهل نلومهم؟
ماذا عن المثقفين؟ هؤلاء مهنتهم الوعي. لا يوجد مثقف ساذج. الصفتان لا تتطابقان جنب بعضهما البعض.
كيف نصف غرائزية المثقف؟ إنها مهمة عسيرة. المثقف يستطيع أن يطلسم تلك الغرائزية. يستطيع أن يبرر طائفيته بالكثير من السكّر اللفظي ليخفي مرارة الحقيقة. بوسعه أن يتحدى الآخرين ويقول إنه فوق المناطقية وفوق الأعراق وإنه تجاوز الاختلاف في الأديان والمذاهب. ولكننا نعرف أن الكثير منهم إنما تسيّرهم الغرائز ذاتها التي تسيّر من يصفونهم هم بالرعاع.
مثقفنا العربي للأسف غير متسامح. والقضية أقدم من عصر الغرائز الحالي.
التنافس شيء طبيعي ولا ينبغي أن يتجاوزه المثقف، أسوة بالجميع. من المألوف أن يتبادل المثقفون سهام الانتقاد والنقد. هذا في صميم دورهم. لكن ما هو غير طبيعي هو أن يتحول التنافس إلى بغضاء وأن يتحول النقد إلى شطب للآخر.
المثقف العربي هو مثقف ناقل وقليل الابتكار. لهذا فإن التنافس كان عادة يدور في سباق غير مرئي لمن يستكشف أفكار الغرب (وبعض الشرق) ويقدمها للقارئ العربي قبل الآخر بعد أن يقولبها عربيا ويخفي معالم النقل. لهذا كان التباغض عبثيا في الكثير من الأحيان لأنه يدور في فلك فكري لا يمتّ للواقع بصلة.
أين تكشفت العيوب أكثر؟ كان هذا مع صعود موجة الطائفية والعرقية وصراع الأديان والمذاهب. ما عاد مثقفنا قادرا على الإتيان بمفردات رفيعة تنقذه من عقده، ولهذا سارع إلى الاستعانة بقاموس الغرائز بكلّ ما يحمله من انحطاط.
اكتشف المثقف العربي شيعيّته وسنيّته ومسيحيّته وكرديته (مثقفنا الكردي يستخدم العربية). صار أشبه بخطيب المنابر في محاجاته. قطع الطريق الذي يربطه بعالم أكثر تنويرا واختار العودة إلى عقلية القطيع.
هل في هذا تحامل على المثقف العربي؟ نعم. لأنه خدعنا. باعنا الكثير من الأفكار وصدقناه ومشينا خلفه لنراه الآن مرتدا عنصريا يستخدم تركة الثقافة لتبرير انعدام الثقافة.
أنظروا المثقفين الذي يبررون هدم المدن على رؤوس ساكنيها. ليسوا أفرادا قلائل، بل تيارات كاملة ومجموعات تكرر وتردد نفس الكلام في تبرير الخراب. لعلهم يبررون أيضا فشلهم في أن يكونوا صانعي الفرق الذي يمكن أن يغير مسارات الشعوب، كما شهدنا وعرفنا عند الآخرين ومنهم.
أنظروا التحيز والتطرف في العبارات التي صرنا نسمعها من مثقفينا. إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا. مثقفنا تشبّه بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش في نظرته. بل صار لا يسمح حتى بتوبة المثقف الآخر إن هو وجد أن طريقه كان ضلالا وأن عليه تصحيح المسيرة. إذا انعدمت قدرة المثقف على قبول “توبة” المثقف الآخر، كيف يمكن له أن يقبل “توبة” البسطاء والسذج؟
أنظروا إلى التقارب غير الصحي بين المثقف والسياسي. مدرسة الانتهازية والتبرير صارت تضم أعدادا إضافية تزاحم السياسيين وتتقرب إليهم طمعا في مال وجاه وسلطة. أنظروا الفارق بين دخول المثقفين من أوروبا الشرقية إلى عالم السياسة بعد انهيار الشيوعية ودخول مثقفينا عالم السياسة بعد انهيار الدولة الوطنية. كم كان الأوروبيون بناة وكم كنا مخرّبين.
المثقف الذي يتحدث بلغة العنف والدم يكون قد أنهى دوره الثقافي وصار أيّ شيء إلاّ أن يكون مثقفا. التسامح أساس من أسس الثقافة. ولا دم مع التسامح. لا دم مع الثقافة.
اللحظة المصيرية التي نعيشها اليوم في أساسها هي القدرة على الخروج منها. مصائرنا أكبر وأهم من أن تترك ليسيّرها الحظ والصدفة والأهواء.
هذه دعوة للخروج وأن يتسامح الخارجون مع الخارجين وأن يتساموا على غرائزهم لعلهم يحفرون نوافذ أمل في جدران العزل التي قسّمت البلدان.