لجأت سيدة إلى أحد البرامج الإذاعية المباشرة تشكو من اشكالية انهماك ابنها وابنتها المراهقين بالهواتف المحمولة حتى أثناء تناول الطعام، ومن خلال حوارها مع المذيع أبدت قلقها على دراستهما من هذا الإدمان الذي شغلهما إلى حد بعيد عن القيام بواجباتهما المدرسية المنزلية أو مراجعة دروسهما المقررة. وتقول إنها حاولت اتباع وسائل عديدة للحد من وقت الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي الذي قلص وقت التواصل الاجتماعي الحي داخل الأسرة حسب تعبيرها.
وذكرت الأم المهمومة أنهما فقدا الاهتمام بالعديد من الأنشطة التي كان يمتعهما القيام بها قبل هيمنة الهواتف عليهما.
هذه النقطة الأخيرة التي أشارت إليها الأم هي واحدة من علامات الإدمان على الهاتف التي لخصها المختصون بأكثر من عشرة أعراض منها: فقدان الاهتمام بالعديد من الأنشطة التي كانت تعجب المدمنين قبل هيمنة الموبايل عليهم، فقدان الشعور بمضي الوقت أثناء استخدام الهاتف، قلة النوم والأرق، مظاهر القلق والتوتر والعصبية، قلة الانتباه إلى ما يجري حولهم والسلوك السلبي في اللقاءات العائلية والاجتماعية، الغضب الشديد عند حدوث خلل في الجهاز أو في شبكة الإنترنت، ممارسة الكذب والاحتيال على الأهل بالتظاهر بالاهتمام بالدراسة، السعي لتغيير الجهاز بجهاز جديد يتيح للمستخدم تطبيقات أوسع وصورا أحسن يتباهى بها أمام أصحابه.
إن انشغال الأطفال والمراهقين من الجنسين بالهاتف هو أحد مظاهر الإدمان على الإنترنت، خاصة وأن جل استخدامهم لا ينصب على وظيفة الهواتف الأساسية التي تم إيجادها لأجلها أي الاتصال، وإنما يستخدمون التطبيقات المتعددة المتاحة على الهواتف؛ التقاط الصور، إرسالها، تبادل الرسائل، قراءة الأخبار الطريفة والمعلومات، متابعة أخبار المبتكرات الجديدة وأسعار البضائع، الألعاب الإلكترونية…
هذه المغريات يصعب على الأهل نهي أولادهم عنها خاصة إذا كان الأهل أنفسهم يمارسون ذات العادات، ويعانون من نفس الإدمان. قبل أيام دخلت صالة المغادرين في مطار بغداد، وكان المكان مكتظا بالمسافرين من الجنسين، نساء محجبات وسافرات ورجال متأنقون أو بملابس خفيفة أو شعبية، وشباب وصبايا وأطفال، ولكنني لم أر وجها واحدا منهم، الجميع بلا استثناء كانوا مطأطئي الرؤوس، ينظرون في أجهزة الهواتف في راحات أياديهم، اثنان أو ثلاثة كانوا يستخدمون هواتفهم للغرض الذي تم صنعها من أجله: الكلام مع شخص بعيد.. أما الباقون، فكانت أصابعهم تعزف على مفاتيح الهاتف، تكتب، أو ترسل، أو تستعرض، أو تبحث في التطبيقات الإلكترونية، اثنان أو ثلاثة وامرأة محجبة كانوا يجربون أخذ صور ذاتية لهم (سيلفي) يخلدون فيها تواجدهم هناك وكان هناك شاب يحاول بهاتفه تصوير حمامتين تتنقلان باطمئنان في قاعة المغادرين بالمطار.
في تلك اللحظات تملكني هاجس مراقبة تعامل الناس مع هواتفهم المحمولة، دراسة ميدانية مرتجلة لتعامل البشر مع هذا الجهاز الخرافي الذي انتشر كالوباء وصار المرء مشلولا من دونه.
ومن بعيد أطلت علينا من جهة كشك ضابط الجوازات فتاة رشيقة بملابس بيضاء تشع أنوثة، تعلق نظري بهاتفها الذي كان بين أصابعها، مشغولة بالعزف عليه فتجاوزت حزام فحص الحقائب اليدوية فناداها الموظف فتراجعت خطوات لتضع حقيبتها اليدوية على الحزام المتحرك، دون أن ترفع عينيها عن هاتفها، فجاءت الحقيبة على حافة الحزام، وما إن تحرك الحزام حتى سقطت الحقيبة على الأرض، وانتظر منها الموظف أن تعيد الحقيبة على الحزام ولكنها لم تفعل، ولم ترفع عينيها عن هاتفها، وقام شاب مهذب برفع حقيبتها ووضعها على الحزام وابتسم لها، فلم تقل له شكرا، ولم ترفع عينيها عن هاتفها، ومرت دون أن تنتظر خروج حقيبتها من الطرف الآخر من حزام الفحص الأمني، وفجأة رفعت عينيها عن هاتفها كأنها قرأت جملة أو اسما ووضعت الجهاز على أذنها، ورأيتها من بعيد تحرك شفتيها وكأنها قالت بلهفة ألو أو مرحبا … ويبدو أنها لم تتلق جوابا .. فنظرت إلى الهاتف من جديد وحركت أصابعها بعصبية وهي تخطو بسرعة إلى الأمام فارتطمت برجل، وسقط الجهاز من يدها على الأرض فركلته بقدمها دون قصد ليندفع كما كرة قدم ويرتطم بالجدار وتتفكك أجزاؤه فتقف أمامها صاحبتنا بذهول وكأنها تقف أمام أطلال تراجيديا عاطفية … لا تستطيع معالجتها بعد أن تحطمت وسيلتها للاتصال بالعالم الخارجي.. فهي دون موبايل امرأة مشلولة منقطعة عن الدنيا!