شدت "تونس هذه الأرض منذ قديم الزمان إهتمام الغزاة والفاتحين فأسسوا مدنا وعواصم خلفت وراءها تاريخا وأحداث عظيمة وبقايا نراها في متاحفنا ومعالم تغني مواقعنا الأثرية والتي استوقفت بدورها الباحثين، جامعي التحف وشواهد الحضارات ولم تخلو كتابات الرحالة العرب وغيرهم عن ذكر عظمة ما خلده الأقوام الغابرون أو الوقوف عند تقاليد وعادات أهالي المدن وطرق عيشهم لما فيها من الغرائب والعجائب أو لطرافتها وخروجها عن العادة والمعقول المتعارف عليه وهاهو زكريا بن محمد بن محمود القزويني في كتابه "اثار البلاد وأخبار العباد" يضع لتصنيفه الذي اختار له مقدمات ثلاث ألزم بها نفسه منطلقا منها ليصف مميزات وخصائص البقاع مرتبة على حروف المعجم.
أولها :" في الحاجة الداعية إلى إحداث المدن والقرى" أين ركز على فكرة الإجتماع حتى تحصل "الهيئة الإجتماعية" التي تبحث بدورها عن أرض تأويها بعيدا عن مضار الطبيعة واللصوص والغزاة فاتخذوا"السور والخندق والفصيل فحدثت المدن والقرى ثم اختيار مواقعها بعد "أخذ اراء الحكماء" كما احتضنت كل مدينة بعجائب وطلسمات غريبة .
ثانيها : "في خواص البلاد" وفيها فصلان أولهما تأثير البلاد في سكانها وقد تعرض لسلبيات "التناهي" في التشريق، التغريب، الشمال والجنوب معرجا على مساوئ المساكن الباردة، الرطبة، الحجرية، اليابسة أما الفصل الثاني فهو في "تأثير البلاد في المعادن والنبات والحيوان" أين قدم العديد من الأمثلة في اختصاص كل بقعة بمعادن معينة ونبات مميز وحيوان غالبا ما يتحكم في طبيعة تواجده طبيعة الأراضي أكانت باردة أو حارة.
ثالثها : "في أقاليم الأرض" متخذا من تقسيم أبو الريحان الخوارزمي منطلقا لبحث اثار المعمورة، خصائصها وعجائب أماكنها وبما أن تونس ومدنها بأرض إفريقية رغم الإختلاف بين الجغرافيين والرحالة لتحديد حدود إفريقية فإن الأخيرة حددتها القسمة ووضعتها بالإقليم الثالث مع بلاد الهند والسند ومصر والإسكندرية وغيرهم. وإفريقية هذه "مدينة كبيرة كثيرة الخيرات طيبة التربة وافرة المزارع والأشجار والنخل والزيتون ….. وبها معادن الفضة والحديد والنحاس والرصاص والكحل والرخام"(2).
وقد ذكر من بين المدن بنزرت، تونس، جالطا، رقادة، القيروان، المهدية، نفزاوة ليقف عند ذكر بعض خصائصها ومنها أساس انبعاث المدن والأمصار المبني على اختيار الموقع الحصين
ذي الهواء الصحي والماء العذب الزلال فهذه رقادة "ليس بإفريقية أعدل هواء ولا أطيب نسيما
منها ولا أصح تربة حتى أن من دخلها لم يزل مستبشرا من غير أن يعلم لذلك سببا"(3) أما عن مواقع المدن ومواضع بنيانها وعمارتها فقد اعتبر مدينة تونس قصبة بلاد إفريقية، بنزرت، تونس مدنا سياحية وهذه المهدية جزيرة "متصلة بالبر كهيئة كف متصلة بزند" (4) ومثلها جالطة.
فكما حدد بعض الجغرافيين والرحالة طول وعرض المدن فإن القزويني لم يخرج عن القاعدة إذ حدد طول جزيرة جالطة بثمانية أميال وعرضها بخمسة أميال.
وهاهو القزويني يبحث من جديد عن عنصر اخر مهم هو الأحاديث والحوادث التي كانت سببا مباشرا في تسمية بعض المدن ونعتها بنعوت خاصة فعند حديثه عن رقادة ذكر سبب تسميتها بل قد أورد الحكاية بكاملها وكيف أن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب مرض وشرد عنه النوم وما أن وصل إلى رقادة نام فسماها هكذا. وهذه القيروان مصرت في أيام معاوية ومدينة المهدية "اختطها المهدي" في سنى ثلاثمائة.
ونظرا لأهمية مدينة القيروان فقد جعلها القزويني نقطة محور لتحديد باقي المدن التونسية أين اعتبر المهدية، نفزاوة ورقادة مدنا قريبة من القيروان وبينهم وبين تونس ثلاثة أيام. وعن مميزات المدن وخصائصها فقد وقف كاتبنا عند ذكر العديد منها، فهذه بحيرة بنزرت عدها القزويني كأحد عجائب إفريقية إذ يخرج منها في كل شهر صنف من السمك على تمام السنة وهذا ما يحدث أيضا بمدينة تونس التي تميزت إلى جانب سمكها "بلوز عجيب" ،الرمان، التين، السفرجل، العناب وهذه رقادة كثيرة البساتين وجالطة بها المزارع والأعين العذبة وهذا عادة ما يقف عند وصفه تقريبا كل رحالة وخاصة ابن بطوطة في رحلته الذي يصف البساتين ويتغنى بها.
وعن المعالم المعمارية فقد ذكر القزويني القلاع الحصينة ورباطات الصالحين ببنزرت، الآثار القديمة بجالطة ، الدور والقصور برقادة، الصهاريج التي تعد بثلاثمائة وستون بالمهدية.
إن كتاب "اثار البلاد وأخبار العباد" للقزويني لا يعد كتابا تاريخيا لكن بعض الأحداث شدته فعرج على ذكرها والإشارة إليها نظرا للصراعات والحروب في تلك الأحقاب وأثرها في قلب عديد الموازين بل مست جوهريا تاريخ المدن وأحدثت نقل نوعية كدخول العرب إفريقية وصراعهم مع البربر عند حديثه عن مدينة القيروان أو في الصراع الذي حدث تاريخيا بين المهدي وصاحب الحمار.
إن الحديث من داخل نفس المرجعية المعرفية يجعلك تقبل عدة أشياء وحوادث حتى لوخالفت المعهود والمنطق وهذا ما تم عند إيراد القزويني حديث دعوة عقبة بن نافع لخروج السباع والحشرات عندما نادى "ارحلوا عنا فإنا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه" فرأى الناس ذلك.
اليوم عجبا لم يروه قبل ذلك وكان السبع يحمل أشباله، والذئب أجراءه، والحية أولادها، وهي
خارجة سربا سربا "(5) وهذه الدعوة سببها موقع القيروان وقتها وصعوبة بعث مدينة والتعسكر بها أو عند حديثه عن الإسطوانتين كيف ترشحان ماء كل يوم جمعة واعتبرها أهلها من العجائب.
إن القزويني في كتاب "اثار البلاد وأخبار العباد " ركز نفس الفكرة التي تحدث عنها سابقوه ولاحقوه وهي منطقة خضراء تؤنس العباد ويطيب فيها العيش لكنه لم يشر بعمق إلى الحقب التاريخية الممتدة منذ فجر الإنسانية عكس عدة مدن وقرى وقف عندها متحدثا عن اثارها ومن أوى إليها منذ القديم ليبقى الكتاب في الأخير محطة يجب الوقوف عندها متحدثا لا فقط لمصافحة الورقات الخاصة بالمدن التونسية بل للسفر معه إلى باقي البلاد بعجائبها وطرافة ما نقل القزويني من حكايات وخرافات إن مجموع ما أورده كاتبنا من خرافات وخوارق بلغة سلسة وجذابة يشجعك على تصفح الكتاب وإتمامه إذ نحتاج بين الفينة والأخرى الرجوع والإنطلاق من سحر الخرافة والأساطير لما تحمله من سحر وقوى جذب نوقفها عندما نحاول فهم الظواهر في منطلقاتها وغاباتها.
الهوامـش:
1- اثار البلاد وأخبار العباد : زكريا بن محمد بن محمود القزويني دار صادر بيروت ص 8
2- نفس المرجع : ص : 148
3- نفس المرجع : ص : 199
4- نفس المرجع : ص : 276
5- نفس المرجع : ص : 242