حقا صراعُ سردياتٍ هذا الذي انفجر في المشرق العربي، أم هو عبث بالهويّات يغذّي صراعاً شرساً على السلطة والمال والنفوذ في شرق لم يتوقف الغرب طوال القرن العشرين عن التفكر في خرائطه وشعوبه ومآلاته، منذ أن حسم صراعه مع الإمبراطورية العثمانية بهزيمتها، وآلت إليه “تركة” الرجل المريض.
هذا كان قبل مئة عام تبدلت خلالها أحوال ونهضت من دودة الإمبراطورية المتفسخة فراشةُ تركيا الحديثة، وقد انفصلتْ عنها ونهضتْ شعوبٌ وكياناتٌ عربية وغيرها، على قوس جغرافي احتشدت فيه أممٌ وهويّاتٌ وأديانٌ كانت قد تصارعت في ما بينها وتحاورت وتلاقت وتزاوجت لقرون، قسراً ورضى، ثم تفككتْ مع تفكك الكيان العثماني، وأخذت تفتش عن ذواتها.
هذا كلام في التاريخ. لكن ظلاله المديدة تملأ الحاضرَ بعمرانه وأنقاضه أيضاً، وتخيّم على النفوس، أفراداً وجماعات، في شرق رجعت تتدفق فيه، إلى جانب أنهارِ جنّاته، أنهارٌ من الدم.
ليست قصة خرافية، ولكنها وقائع معاصرة، وإن كانت تكشفُ عن وجه خرافي للعالم، وجه يعيد إلى أذهان أبناء عصرنا صورا تحاكي أبشع ما أنتجت المخيلة الإنسانية في أساطير الأولين؛ عراقيين، ومصريين، وأغارقة، وسوريين، وعرباً، وفُرساً، ومُغُلا، وغيرهم يتحدّرون من أمم الشمال، وجميعهم مقبل على الشرق بالقوارب والسفن والشعلات وعلى ظهور الأفراس والبغال المدججة بالأسلحة والصلبان. هي، أيضاً، قصة قديمة تجدّد نفسها بأن تملأ العالم بخرافات جديدة.
ولكن لماذا تريد نخبنا المماريةُ من شعوبنا المطوّقة بالنيران، اليومَ، أن تهملَ العلاقةَ بين الأسباب والنتائج؟ لماذا ترغب هذه النخب في القَطْع بين اليوم والأمس، وديدنها النظر في الحاضر كما لو أنه ولد من قصة غامضة لا سياق لها في الماضي. ولربما رأى بعضنا في حاضرنا قصةً ورديّةً، مع أن القرن العشرين كان الأكثر دموية في التاريخ؛ وقعت فيه حربان عظميان، قُدّم على مذبحهما أكثر من مئة مليون أضحية بشرية، عدا عن ضحايا الحروب والثورات الأخرى. وابْتُكرت في هذا القرن واستُعملت أسلحةٌ فتاكةٌ لا قبل للبشر بها؛ جرثوميّة، وغازيّة، ونوويّة. ولم تكن حصة العرب من الأضاحي البشرية بقليلة، فقد قاتل العرب وقُتلوا في كل المواقع التي حاربت فيها الإمبراطورية العثمانية في ثلاث قارات، وعلى رقعة امتدت من حدود روسيا إلى شرق أفريقيا وشمالها.
كيف يمكن لعرب اليوم أن يتجاهلوا أن جزءاً كبيرا من الصراع في العالم قام على جسدهم الحيّ، وأنهم عندما أوهمهم العالم أنه قبل بهم أمةً في شعوبٍ وكيانات ولها كيان رمزيٌّ جامعٌ، عاد يُعمل فيهم تفكيكاً، مستغلا تلك التناقضات الثقافية والسياسية والعرقية بين العرب وجوارهم الحضاري.
***
لا يجدر بنا أن نهمل حقيقة أن ما حدث ويحدث من وقائع وتحوّلات في ما يخص المشرق العربي، أو حتى أبعد في الشرق الأدنى، إنما جرى في إقليم نهض فيه كيان سياسي جديد لأمّة تطلب من العرب ثأرا هي الأمّة الفارسية، وهؤلاء قوم لم يخمد فيهم لهب الماضي، انضووا، لقرون، تحت راية الإسلام، ومازالوا، لكن قلقهم الهويّاتي ظل ينازعهم في هويَّتهم المكتسبة على أنفسهم وحقيقتهم الحضارية القديمة، وقد أورثتهم هزيمتهم العسكرية والدينية أمام العرب وخضوعهم للدِّين العربي جرحاً نرجسياً لم تشفهم منه إقامتُهم المديدةُ في الإسلام، وها قد شبت فيهم، اليوم، من جهة أخرى، نارُ صراعٍ مرير متجدّد بينهم وبين القوميات الأخرى المتساكنة معهم في الهوية الإيرانية تحت علمين، أولا: علم الشاهنشاهية الفارسية وقد أخضعتهم سياسيا وثقافياً، وثانياً: علم الثورة الخمينية، التي أسست لإمبراطورية إسلامية هجينة تقوم على عنصرين متعاديين قومي وديني، واصلت إخضاع الأقوام غير الفارسية، وحرمتهم من حقوقهم الثقافية تماما تحت ضغط هيمنة لغوية مقصَّبة بقشرة الدين البراقة. وهذه لوحدها قصة غريبة لكيان يقوم على نوازع متصارعة يهيمن من خلالها على العناصر القومية الأخرى المكوِّنة للنسيج المجتمعي، من عرب وآذريين وكرد ولوريين وبلوش وغيرهم، عنصرٌ مكبوح كبحاً عنيفاً، ومحتقن، تاريخياً، هو العنصر الفارسي، بوصفه -كما برهنت العقود الثلاثة الماضية- كياناً لا قبل له بالتعايش مع جواره الحضاري من عرب وترك وغيرهم إلا بالتّنافس العميق وبطلب الصراع.
أما وقد استيقظ، على هذه الخلفية المعقدة، “الرجل التركي المريض” وقد برأ من جروح الماضي، اللهم إلا من جرحه النرجسي النائم، يبحث عن دور له في الشرق يعزز حضوره في مواجهة الغرب، من باب انتزاع موقع في العالم يكافئ ما بات يرى أنه وجود مستحق بين الأمم القوية، فإن ذلك يعني أن القفل الذي ضرب على “صندوق الشرور” قبل مئة عام، وخلخله العواء الكتيم للغريزة الفارسية الطالبة ثأرا قومياً من العرب مقنعا بـ”الشيعية الحديثة”، قد سقط، وأن عصراً جديداً من العجائب المصحوبة بالفظائع سوف يطل برأسه، في شرق لن يبقى فيه شيء على حاله.
والسؤال الآن، أين هم العرب من كل هذه العلامات والإشارات المشؤومة؟ أين هم أصحاب اللغة العربية بناة الإمبراطورية التي مشت الخيول والجمال تحت سحابتها وعلى متونها وصهواتها مخطوطات العلوم وثمرات الحضارة من دمشق إلى بغداد ومن دمشق إلى الأندلس؟ أين هم سراة العرب؛ أين هو النسل المتحدّر من صلب بناة المشروع الحضاري العربي؟
هل هم موجودون في غير تلك المواقع التي مرّت فيها سكاكين الثأر على أعناق أحفاد الأمويين في دمشق وأريافها، وحلب وأريافها، وحمص وأريافها، وكذلك في حوران وسهولها التي هلكت فيها منذ ما قبل الإسلام جيوش الغزاة؟
أين هم العرب من أصوات الرعاع من لبابنة إيران وعراقيي فارس وأفغانهم وفيلييهم وهزارتهم واللور وكل من أمكن تجنيده من الدهماء بمال قليل، ليعيثوا في حواضر الشام فساداً ويعملوا القتل في أهل البلاد الثائرين على الاستبداد، وقد رفعوا عقيرتهم بالشتم والسباب واللعن لفاتحي الشام والعراق وقادتهما عمر وخالد وصلاح الدين، مصحوبين بمسلحين قرويين نزلوا من كهوف الساحل السوري وقد لعب الطاغية بعقولهم الصغيرة، وجعلهم أدلاّء للغزاة.
أين هم العرب؟ هل هم موجودون في ظلال أخرى غير تلك الظلال الراشحة دماً للمآذن المكسورة تحت صرخات: “يا حسين”، و”لن تسبى زينب مرتين”، من مئذنة الجامع الأموي في حلب، إلى مئذنة الجامع العمري في درعا التي لم تعد موجودة اليوم؟
أين هم العرب؟ وهل إن ما نشهده اليوم من محاولات لكبح شهوة الغزاة من فرس وغيرهم، انطلقت من جزيرة العرب، يمكن أن تفضي إلى تعريف جديد للهوية يُخرجُ العربَ من كهف الدم والظلام إلى دنيا النور، ومن أوهام الماضي إلى دروب المستقبل.
في ضوء ما سلف من عجائب الحاضر نقرأ الوعيد الذي أطلقه عباس عراقجي باسم السيد روحاني ضد شركائه الافتراضيين في العقيدة الإسلامية إثر الهزيمة المذلَّة التي مُني بها حضوره في المؤتمر الإسلامي:
“ستندمون على فعلتكم!”.
ولكن، أهو شيء آخر غير صوت النزق القومي الجريح للإمبراطورية المهانة في استعلائيته وعدوانيته، مرة أخرى، من عرب طفح بهم الكيل وشرعوا في الرد على العبث القومي الفارسي ببلادهم وكياناتهم ومصيرهم الوجودي، هو ما نسمعه اليوم من صلف بلسان فارسي؟
***
إنما السؤال، الآن، هو في جوهر المسألة: الترك والفرس ومعهما شريكهما الإسرائيلي يعرفون ماذا يريدون، ولكلّ منهم مشروعه الحاضر ورؤيته للمستقبل، وعلاقاته مع هاتين الهويَّتين، ولديه تعريفات لهويَّته تتأسس على سرديَّته، وداخل تلك السرديَّة يوجد العرب ولهم صورة، وأحيانا صور. وغرفة المرايا بأضلاعها الثلاثة تتبارى فيها الصور في تهشيم وتغييب وجه العرب. ولكن ماذا يريد الأخيرون؟ وكيف يريدون ما يريدون؟
هذا هو السؤال.
وبإزاء هذا السؤال تنهض الأسئلة الأخرى، ومعها سؤال الهوية، الذي يطرح اليوم بطريقة يستجاب معها للتعريفات التي طالما طفت على سطح الأدبيات الكولونيالية مع رواج مشروعات “شركة الهند الشرقية” ومعها مصطلحات مفكريها الاستعماريين ومفاهيمهم الإثنوغرافية عن شعوب الشرق. وبالتالي فإن تقعيد تعريف الهويَّة في إطار مفهوم الأقلية والأكثرية الاستعماري، إنما القصد منه في النهاية خلق تشويش في الأذهان لا نهاية لتداعياته الانشطارية. فضلا عن أن كل استعمال لهذا المفهوم إنما يكشف، بالضرورة، عن ضرب من الانصياع للمفهومات الموروثة من عهود الصراع على الشرق، وما حفل به هذا الصراع من عناوين منها، بطبيعة الحال، ما سمّي بـ”المسألة الشرقية” و”تركة الرجل المريض” وغيرهما. والتاريخ كتب لنا أدوار القناصل الغربيين في الشرق وصولا إلى تأسيس دول الطوائف ونموذجها الأكمل لبنان البلد المريض بطوائفه مرضاً لا شفاء منه.
في هذا السياق أُنتج مفهوم الأقلية الخائفة من أكثرية مخيفة و”حماية الأقليات” وغيره.
ولا ينطبق هذا المفهوم، في نظرنا، على التجارب المجتمعية الأكثر وزنا في العالم العربي، العراق سوريا، مصر. بل على العكس من ذلك، ففي النصف الثاني من القرن العشرين أمكن لنخبة عسكرية تنتمي، غالباً، إلى طائفة قليلة العدد في سوريا، أن تحكم الأمّة السورية كلها تحت شعار أيديولوجي قومي مراوغ يتحدث عن “أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، سرعان ما فرّغته ممارساتها القمعية من محتواه، تماماً، وعلى مدار نصف قرن، أمكنها أن تطحن الأكثرية المجتمعية طحنا حتى لم يعد لهذه الأكثرية من كيان تلوذ به سوى الماضي المتوهَّم، ولم يتبقّ من المشهد السوري خلال نصف قرن سوى مشهد: العسكر والحظيرة والرعاع والأيديولوجيا القاتلة. أما الناس ففي ظلام الكهف.
***
لا خلاص للعرب من حلقة الضباع التي أحاطت بهم وراحت أنيابها تعمل النهش بجسدهم، ولا خروج لهم من الجحيم الذي رماهم التاريخ في أتونه، إلا بعروة عربية جديدة بعيدة عن أيديولوجيا الأوهام، يُمكِّنهم منها مشروعٌ جديدٌ يتيح للعقل العربي تحرير نفسه من أوهام الماضي وآلام الحاضر، ويجعلهم أقرب من أنفسهم في سجيتها الطبيعية، وأكثر استعداداً، بالتالي، للخوض في شراكات عقلانية تقوم على المصالح المشتركة، في إطار مشروعات واقعية خلاقة تتيح لهم اللقاء على أرض الفكرة المشتركة والأفكار المختلفة، لتحقيق تطلعات تستجيب لتحديات حضارية لا يمكن تحقيقها دون القطع مع أحلام اليقظة الماضوية، ولكن لا سبيل إليها أيضا دون الحلم بالمستقبل.
نوري الجراح:شاعر من سوريا مقيم في لندن