ما فتئت الحكومة التونسية تؤكد منذ انتخابها أن الاستراتيجية التي اعتمدتها لمكافحة الفساد تلائم بين الأبعاد القانونية والتنفيذية من ناحية، والأبعاد القيمية والثقافية والسلوكية من ناحية أخرى.
لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما فمفاصل الدولة ينخرها الفساد، وتؤكد ذلك مؤشرات الأداء والنمو الاقتصادي الضعيفة، التي ما كانت لتكون كذلك لولا ترهل الإدارة وانتشار الفساد، الذي يزعزع ثقة المستثمرين ويعطل عجلة النشاط الاقتصادي.
جميع المسؤولين يتعهدون بمكافحة الفساد ويتوعدون الفاسدين، لكن لا أحد تجرأ يوما على استئصال المشكلة أو على الأقل التقليل منها. فالطبقة السياسية تنبذها في الظاهر ولا تفعل شيئا في الباطن وهذه الأيادي المرتعشة لا يمكن لها أن تحل المشكلة.
خطورة ظاهرة الفساد التونسية تكمن أساسا في العمى الشامل في مواجهة منابع الفساد وجذوره العميقة. هناك مؤشر وحيد يؤكد الحقيقة المرة، وهو الإجماع الشعبي على أن الظاهرة تتفاقم ولا يمكن التصدي لها.
وتعد هذه الظاهرة العقبة الأساسية التي تقف في وجه تطور ديمقراطية تونس الناشئة منذ ثورة يناير 2011، وهي تنخر بشكل رهيب المؤسسات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وتضرب بالتالي كل أركان الدولة دون استثناء، ولا تزال تعيق حركة التغيير وإعادة بناء أجهزة الدولة على أسس ديمقراطية سليمة.
صحيح أن هذه الظاهرة كانت تضرب مفاصل دولة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، عبر دولة عميقة تدار من قبل مافيا الفساد بزعامة عائلته وأصهاره، والتي أغرقت أجهزة الدولة في الفساد حد النخاع. لكن الظاهـرة خلال السنوات الخمس الأخيرة أخذت بعدا آخر؛ فقد اغتنمت لوبيات الفساد فرصة هشاشة الأوضاع وضعف أجهزة الدولة وضعف تطبيق القانون لتؤسس دولة فاسدة متناقضة مع الشرعية.
لقد عطل الفساد تحقيق النقلة النوعية في طبيعة الاقتصاد التونسي وتسبب في هروب رؤوس الأموال وتنفير أغلب المستثمرين التونسيين والأجانب. ولعل اعتماد تونس بشكل متزايد على الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية والدول المتعاطفة مع ديمقراطيتها الناشئة، لتغطية العجز الكبير في الموازنة، أكبر دليل على تخبط النشاط الاقتصادي وضعف إقبال المستثمرين المحليين والأجانب.
العشرات من البحوث والدراسات واستطلاعات الرأي حول الفساد أجراها خبراء في الاقتصاد في السنوات القليلة الماضية، تؤكد تأزم العلاقة بين الاستثمار والتنمية من جهة وكفاءة المؤسسات الحكومية من جهة أخرى وهو ما أدى إلى إبطاء وتعطيل عجلة النمو. فتحريك عملية التنمية المستدامة يتطلب الشفافية وردع الفاسدين وهو ما تفتقر إليه تونس حتى الآن.
يلاحظ المتابع للمسار التنموي في تونس غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد الذي أصبح منظومة يصعب تفكيكها دون إعادة الاعتبار لبناء الدولة الديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات الشفافة والقضاء المستقل.
ورغم أن الحكومة المنتخبة منذ قرابة عامين تنادي بسياسات الانفتاح الاقتصادي القائمة على حرية حركة الأموال ومكافحة غسيل الأموال والجريمة المنظمة وتشديد الرقابة على الحدود الدولية لمنع الهجرة، فإنها لم تحقق حتى الآن أي نتائج تذكر، في وقت تتزايد فيه القناعة بأنها لن تفلح في اقتلاع الفسـاد من جـذوره. وتشير إحصاءات جمعية المراقبين العموميين في تونـس إلى أن 89 بالمئة من التونسيين يعزون استفحـال الفسـاد والـرشوة إلى غياب الإرادة السياسية. ولفتوا إلى أن الفساد تحول إلى ثقافة وأصبح أسلوب تعامل عادي ووسيلة لتسهيل الإجراءات الإدارية.
وقد أكد ذلك المسح السنوي حول مناخ الأعمـال الذي أصـدره المعهـد التونسي للقدرة التنافسية والدراسـات الكمية مطلع هـذا العـام، الذي غطى أكثـر مـن ألف مؤسسة خاصة. وأظهر أن ثلث المؤسسات أصبحت مجبرة على دفع رشاوى لقضاء شؤونها.
هناك أرقام كثيرة مفزعة تعكس حجم تغلغل ظاهرة الرشوة والتجاوزات المالية في أجهزة الدولة، بسبب انتشار الفساد الإداري والمالي، الذي يعرقل النمو.
أكبر دليل هو تراجع ترتيب تونس في التصنيف الأخير لمؤشر الفساد في القطاع العام الصادر عن منظمة الشفافية العالمية من المركز 75 إلى المركز 77. وقد أرجعت ذلك إلى بطء التشريعات المتعلقة بالعدالة الانتقالية وخطط مكافحة الفساد وعدم وضوح الأفق السياسي الذي لا بد منه لفتح الآفاق الاقتصادية.
رياض بوعزة: كاتب وإعلامي تونسي