منذ ثلاثة عقود أصدر بول كينيدي، المؤرخ الأميركي المعروف، كتابه “صعود وهبوط القوى العظمى”، الذي حظي بشهرة واستقبال واسعين، في حينها، وقد رصد كينيدي في كتابه أسباب تراجع القوى العظمى عبر التاريخ، وضمّنه تنبؤا بأن الولايات المتحدة تواجه مثل هذا المصير، محذرا من طريقة عمل النظام السياسي الأميركي باعتباره بات متقادما ومستهلكا، وينبغي تجاوزه، أو إدخال تعديلات عليه، ومنتقدا النظام التعليمي الذي بات يراه متخلفا، ومتخوفا من تداعيات الفجوات في مجتمع الأميركيين، وانهيار نظام الأسرة، وعدم الموازنة بين الإنفاق على العسكرة والإنفاق على التنمية والتقديمات الاجتماعية، والفجوات في المجتمع لصالح جماعات رجال الأعمال الذين يدفعون ضرائب أقل ويجنون أرباحا أكثر.
وفي حينه أيد مفكرون أميركيون كثيرون أطروحات كينيدي، في حين عارضه آخرون، من الذين كانوا يصرّون على أن الولايات المتحدة مازالت رغم كل شيء الدولة الأعظم والأقوى في العالم، وأن المشكلة ليست في تراجع الولايات المتحدة وإنما في صعود الآخرين، على ما ذهب فريد زكريا في كتابه “عالم ما بعد أميركا”. في حين أكد زبغنيو بريجينسكي أن الولايات المتحدة مازالت هي القوة الأعظم، لكنها بحاجة إلى تطوير أحوالها.
هذه المقدمة ضرورية لفهم ما جرى في الانتخابات الأميركية التي تمخّضت عن مفاجأة كبيرة تمثلت بفوز دونالد ترامب، الذي لم يكن أحد يتوقع انتخابه، فاستطلاعات الرأي تنبأت بسقوطه، ووسائل الإعلام اشتغلت على الحط من شأنه وإظهاره كمهرّج أو كشخص غير مألوف، والنخب نظرت إليه بازدراء باعتباره شخصا شعبويا ويفتقد إدراك العالم.
انتخاب ترامب يكشف عن ثلاثة أمور: أولها، تمرد الأميركيين على واقعهم، على ما يسمّى “المؤسسة” أو النخبة الحاكمة، أو مراكز صناع القرار، وتمردهم على وسائل الإعلام التي تتحكم فيهم وتحاول صوغ أحلامهم وأفكارهم، وعلى العادي والرتيب في الحياة الأميركية التي باتت تثقل عليهم. أما ثانيها، فقد كشف عن عمق الانقسامات والفجوات في مجتمع الأميركيين، بين الذين تحت والذين فوق، بين النخب وأكثرية الشعب، بين الشمال والشرق والغرب، وبين الوسط والجنوب، بين وول ستريت ووادي السيليكون وعالم الهاي تيك، وبين الفلاحين والعمال في المصانع التي كانت وانهارت أو انتقلت إلى بلدان فيها أياد عاملة رخيصة، بين المدينة والريف، بين المحلي في أميركا والمتعولم فيها. وثالثها، أن هذه الانتخابات كشفت ثغرات النظام السياسي الأميركي، ومحددات أو تشوّهات الديمقراطية الأميركية وعورات النظام الانتخابي.
مثلا، وعلى الرغم من قوة النظام السياسي الأميركي المتأسس على المواطنة المتساوية والحريات الفردية، واحترام الاستقلالية، وحرية الرأي والتعبير، والقائم أيضا على الدولة الفيدرالية (نقيض الدولة المركزية)، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إلا أن ما يفترض الانتباه إليه، أيضا، هو أن هذا النظام يتضمن نقاط ضعف كبيرة وثغرات كثيرة.
يمكن تمثل ذلك أولا من، طريقة التصويت، إذ أن الأميركيين لا ينتخبون رئيسهم بشكل مباشـر وإنما ينتخبون هيئة ناخبة (538 شخصا) تقوم بانتخاب من يريدونه عنهم في اجتماع يعقد في الشهر التالي للانتخابات، وهؤلاء يعرفون بالمجمع الانتخابي، أي أن الأمر لا يتعلق بالأكثرية التصويتية لكل مرشح وإنما بحيازة أكثرية المجمع. ثانيا، تحكم قطاعات الشركات والإعلام والخدمات في صياغة الرأي العام وتوجيه أمزجة الناخبين، وهذه العملية طوعت الشركات ومن يملك المال، ويبدو أن ترامب لعب على سأم الرأي العام الأميركي من هذه المجمعات وكان له ما أراد.
ثالثا، اعتماد نظام الحزبين الكبيرين وهذا يحد من التنافس ويضعف المشاركة السياسية، وكان أن جاء ترامب من خارج هذه المنظومة، أو العائلة الحزبية، بحيث أنه فرض نفسه على الحزب الجمهوري. رابعا، فترة عضوية مجلس النواب (435) سنتان وهي قصيرة بينما فترة عضوية مجلس الشيوخ (100) أربعة أعوام، وهذا يضعف استقرار الهيئة الشرعية (الكونغرس).
خامسا، هناك نظام غربلة للمرشحين لكل من الحزبين، وهي مرحلة التصفيات، أي الانتخابات التمهيدية، وهذه المرحلة من شأنها تضييق خيارات الناخب الأميركي كما يحصل في كل مرة مع مرشحين اثنين فقط، كما أن ذلك يضيّق من فرص المرشحين الآخرين. سادسا وأخيرا، هو أن عيوب النظام الديمقراطي هي ذاتها عيوب النظام الديمقراطي الأميركي الذي تتحكم فيه وسائل السيطرة والهيمنة المالية والإعلامية والحزبية.
سيان ثورة “ترامبية” أو تمرد شعبي على شكل مفاجأة غير متوقعة، إذ لا أحد يعرف تداعياتها لا أميركيا ولا عالميا، ومع ذلك فما جرى هو جرس إنذار يفترض بالنخبة الأميركية إدراك معانيه واستنباط دروسه.