مصطلحات الحداثة...وغربة صالح في ثمود ؟

Photo

المصطلحات في جوهرها هي عناوين للثقافة والحضارة المنتجة لها، تستمدّ قوة مفاهيمها ومدلولاتها من قوّتها وتستمدّ كذلك ضحالتها من ضحالة الثقافة المنتجة، ولا يمكن لثقافة مهترئة قادت المجتمع إلى هذا المستوى المتدنّي على جميع الأصعدة أن تنتج مصطلحات ذات مدلولات علمية او إجتماعية راقية أو متطورة، سواء على المستوى الإجتماعي " اللغة المتداولة ( قبّي قبي ) مثالا "، أو على المستوى العلمي، حيث كانت المصطلحات مستنسخة بطريقة مشوهة من الثقافة الفرنسية.

المدقق في المصطلحات المستعملة من النخب السياسية والثقافية في البلاد، يلاحظ أنها تركز على ثنائيات متنافرة في المعنى، وكأنها أختيرت بعناية ودقة قصد التفريق والإقصاء، لا يمكن التأليف بينها في منطقة وسطى للفعل السياسي والإجتماعي، وحتى وإن كانت هذه المفردات قابلة لذلك، فإن طائفة من رعاة الفكر والثقافة والسياسة يصرّون على أحادية المعنى التصادمي الإقصائي لهذه المصطلحات.

الحداثة والرجعية، الإنفتاح والإنغلاق، التنوير والظلامية، الدينية والمدنية، اليسار واليمين، الرجل والمرأة، السلطة والمعارضة...كلها ثنائيات نسمعها صباحا مساءا، ولو دققنا في معانيها الحقيقية لوجدنا أنها لا تتماشى أبدا مع مفاهيمها الفكرية والسياسية التي تستعمل كمدلولات لها.

فالحداثة لغة، هي مصدر من حدث يحدث، ووصف لما هو حديث ويمكن أن ترد في سياق يفيد ما جدّ من تطور، كما تفيد العصرنة والإنسجام مع مستجدّات العصر الحديث، أما إصطلاحا، وحسب القاموس الدولي للمصطلحات الأدبية فإنّ وصف " حديثٍ " بدأ يستعمل في المحادثة الفرنسية في القرن السادس عشر للتّمييز بين ما يرجع للماضي المتمثل في العهد الإغريقي والروماني وما هو حديث في تلك الفترة التي إمتدت إلى القرن الثامن عشر.

أما في بلادنا فللحداثة معنى آخر بعيدا كل البعد عن دلالات مصطلح الحداثة عن التحولات السياسية والفكرية والعلمية والإقتصادية والحضارية، فالحداثة عندنا لا علاقة لها بالنهضة الإقتصادية والصناعية ولا علاقة لها بمراكز البحوث وبناء الإستراتيجيات، ولا علاقة لها بتطوير وسائل الإنتاج أو تطوير منظومات الدفاع الجوي، كل هذه المتاهات العلمية لا يهمنا ما يستحدث فيها لا في القرن السادس عشر ولا في القرن الواحد والعشرين، الحداثة عندنا لا تتعدّى التصوير الجسدي الغرائزي للمرأة ، أو الجانب الإغرائي الفولكلوري الذي صاحب النهضة الإقتصادية ووسائلها المتوحشة الحاثّة على الإفراط في الإستهلاك، وكانت المرأة " الشيء " أو المرأة " الجسد " هي الوسيلة الأكثر إغراءا، وكان المدخل هو الحرية أو التحرّر أو المساواة …،هذه الموجة الحداثية الهائلة أو التسونامي العلمي الذي حدث في الغرب لم نظفر منه إلا بمستحدثات تحريك الغريزة، أو لنقُلْ " الأعراض الجانبية " للحداثة الغربية، وما تعنيه من إنحرافات في المفاهيم والسلوكات، لها مبرّراتها في المحاضن الفكرية والسياسية والإجتماعية للحداثة الغربية، ولها أيضا مبرّراتها الإيديولوجية والنفعية الشخصية والقبلية للمنظومة الثقافية السياسية التي واكبت دولة الإستقلال.

أمام هذه الموجة الصناعية الغربية وما رافقها من تطورات في حياة المجتمع الغربي، كان لا بد من الإنفتاح على الغرب، لم يكن هذا الإنفتاح على مضامين النهضة الغربية في مجالاتها العلمية والإقتصادية والعسكرية والزراعية والطبية …بل إكتفت النخب السياسية والفكرية بالإنفتاح على مصب الفضلات الإجتماعية، وكل ما واكب هذه الحضارة الراقية من ترهّلات على المستوى الأسري والإجتماعي، وأصبح الإنغلاق عندنا هو أن نسعى لتحصين أنفسنا من هذه الأوبئة الإجتماعية التي يقرّ علماء النفس والإجتماع الغربيين أنها أصابتهم في مقتل، وقد بدؤوا فعلا في بعض المعالجات لهذه الأمراض.

فلو عدنا لمفهوم الرجعية اللغوي سنجد أن الرافعين لشعار الحداثة هم أكثر الناس رجعية بل أكثر الناس راديكالية في إقترابهم من عيش الإنسان البدائي، وإذا كانت الرجعية في معناها الإيديولوجي " الحداثي " هو الرجوع بالإنسان لأصوله الدينية والحضارية، فإنهم في تنزيل مفهومهم للحداثة عادوا به لأبعد من ذلك بكثير في سلم التطور الحضاري، فقد عادوا به لمرحلة الجاهلية من حيث المضمون الإيماني وللبدائية الأولى من حيث الرجوع لورقة التوت لستر العورة، بل وإسقاطها أصلا ليعود إلى ما أبعد من البدائية الأولى، وهذا خلل في مفاهيم المصطلحات النخبوية على غرار الحداثة والرجعية، وعوض أن تذهب نخبنا إلى مفهوم ما بعد الحداثة الذي تحدث عنه محمد عابد الجابري فإنّهم إتّجهوا براديكالية مفرطة إلى ما قبل البدائية الأولى.

اليوم أصبح الوضع من الناحية الثقافية مختلفا أو في طريقه لذلك، وإن كان المتحكمون في قطاع الثقافة لا يزالون يُحكمون السيطرة على الساحة الثقافية إلا أن الحرية في مطلقها إذا توفّرت تُمكّن من إثراء المعنى، وبالتالي توفّر مجالا واسعا للتنمية الثقافية، وعلى محدودية الإنتاج الثقافي الممثل للمخزون الحضاري والثقافي " التاريخي " للمجتمع إلا أن مصطلحات جديدة، وطنية المنشأ، قوية من حيث المعنى والمدلول السياسي والإجتماعي بدأت تطفو على السطح من قبيل " التدافع" و" المسلمون الديمقراطيون "، و" التوافق " ، و" الوسطية … ".

هذه المصطلحات بدأت تستفزّ صناع النّمط، وقد يكون المستوى المتدنّي والفاضح الذي بدت عليه أيام قرطاج السينمائية شكلا ومضمونا أو المواضيع المطروحة من قبل النخب المنتجة تقليديا للثقافة ودرجة إستفزازها للذوق العام الوطني خاصة في وسائل الإعلام " الأكثر حيادا " يدل على درجة التخبط التي بلغتها النخبة وعدم قدرتها على القيام بمراجعات تمكنها من إدراك قدر من التوازن الفكري والنفسي والعلمي يمكّنها من الصمود أمام الرّفض المتزايد لأطروحاتها الثقافية المتآكلة والمصالحة المتدرّجة للمجتمع مع مخزونه الحضاري والثقافي والتاريخي، رغم القصف الإعلامي المتواصل والرّفض الشعبي لأيام قرطاج السينمائية ( نوّارة ثقافة النمط ) خير دليل على ذلك.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات