" التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ، وفي باطنه نظر وتحقيق "، هكذا قال إبن خلدون ، فهل مازال العرب والمسلمون عموما في مرحلة الإخبار عند قرائتهم للتاريخ، أم أنهم نظروا وحققوا فلم يجدوا شيئا يستحق الوقوف عنده فتركوه جانبا وآنصرفوا ؟ أم أن العرب خصوصا تعطلت عندهم ملكة التفكير وأصبحوا تحركهم الغرائز أكثر مما يحركهم العقل.
بعد أكثر من أربعة عشر قرنا مازال المسلمون عموما والعرب خصوصا يراوحون عند معضلة إنتقال السلطة، هذه العقدة التاريخية التي لم تجد إلى اليوم طريقها إلى الحل وأصبحت منطقة ظل لا يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وشبّه على الناس الدين والسياسة، حتى صار الدين والسياسة على طرف نقيض فهل هناك فعلا خطا فاصلا بين الدين والسياسة، وما هو المقصود بالدين حين نتحدث عن هذا التداخل الذي يراه البعض واجبا شرعيا ويراه البعض الآخر وقوع في المحضور.
الخلاف على إنتقال السلطة بدأ من سقيفة بني ساعدة والرسول الكريم لا يزال مسجّى، ثم إستتبّ الأمر لأبي بكر بعد نقاش عسير مع الأنصار الذين أرادوا تولية سعد إبن عبادة، ثم ترك أبي بكر وصية بتولية عمر إبن الخطاب من بعده، وقد تم الأمر كذلك وتمت مبايعة عمر، إلا أن الفاروق لم يولّ أحدا من بعده وقال " لن أتحمل أمرهم حيّا وميّتا " وجعل الأمر شورى بين ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمان إبن عوف، يقول إبن كثير " وأوصى ( أي عمر ) أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشّورى، وأن يجتمع أهل الشّورى ويوكّل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكّل بهم خمسين رجلا من المسلمين وجعل عليهم مستحثّا أبا طلحة الأنصاري والمقداد بن الأسود الكندي…"، إنتهى الأمر إلى إستفتاء للناس على عليّ وعثمان يجريه عبد الرحمان إبن عوف يقول عنه إبن كثير " ثم نهض عبد الرحمان إبن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا ، مثنى وفرادى ومجتمعين، سرّا وجهرا، حتى خلص إلى النّساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها…" .
لم يذكر عمر رضي الله عنه في الشورى(إبن عمّه ) سعيد بن زيد بن عمرو وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، خشية أن يراعى فيولّى لكونه إبن عمه ، وقال لأهل الشورى يحضركم عبد الله - يعني إبنه- وليس له من الأمر شيء أي انه يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولى شيئا كما يروي إبن كثير.
ونحن نستعرض هذه الأحداث التاريخية يجب أن نتوقف عندها مليا لسببين، الأول هو أنها حدثت في دولة الخلافة ولا أقول الراشدة لأن الخلافة إذا سحب منها الرّشد صارت إستبدادا فلا يوجد خلافة راشدة وأخرى غير راشدة مهما بلغت الثانية من تطور إقتصادي وتمدد جغرافي،والثاني أنها وقعت سنة 24 هـ أي سنة 644 م عندما كان الغرب الذي أصبح اليوم منارة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان يعيش في ظلمات الإستبداد السياسي والإنحطاط الفكري والأخلاقي.
أنا لست عالم إجتماع ولا دارس للتاريخ ولا محللا سياسيا، أنا مواطن بسيط أريد أن أعلق على بعض النقاط الواردة في هذه الفترة المفصلية في تاريخ الدولة الإسلامية التي يجب أن نعيد دراستها من جديد، فعمر إبن الخطاب أعطى إشارات في أواخر أيام حياته لو أحسنت النخبة السياسية وقتها إلتقاطها لكنا تجنّبنا أنهارا تسيل من دماء المسلمين إلى يومنا هذا من أجل إنتقال السلطة.
فعمر إبن الخطاب أراد أن يبرز أن الشأن العام يجب أن يفصل عن شأن العقيدة والعبادات فأوصى أن يصلي بالناس " صهيب " ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، ولم يكلف بذلك أحدا من المرشحين للخلافة، وهو أول تحييد للمسجد عن الدعاية الإنتخابية، فصل في نظري لا بين الدين والسياسة كما يذهب بعض النخب، لأن الدين يحتوي السياسة ولا يمكن لأي عاقل أن يفصل بينهما لأن الدين هو المرجعية الأساسية لكل تفاصيل الشأن العام، وإنما هو فصل بين ما هو عقائدي بما للعقيدة من قدسية وتأثير على وجدان الناس وهو في الأصل علاقة بين الإنسان وخالقه تتجلى في سلوك الإنسان وتواصله مع محيطه الخاص والعام، ولم تتدخل الدولة في تفاصيل هذه العلاقة فالصلاة في المسجد لم تتطلب سجلا لتسجيل الحضور ولم يأمر الخليفة بتجديد الشهادتين كل عام ، ولم ترغم الدولة الناس على أداء فريضة الحج للقادرين عليها ماديا وجسديا ولم تقم الأجهزة الأمنية للدولة بزيارات فجئية لبيوت الناس في رمضان لتتأكد من صيامهم، ولكنها أي الدولة تدخلت في أداء فريضة الزكاة لأن هذه الفريضة دعامة أساسية للسلم الإجتماعي وللتوزيع العادل للثروة فإنها وإن كانت عبادة يتقرب بها إلى الله إلا أنها أيضا تدخل في الشأن العام، لذلك كان أبوبكر شديدا في تطبيقها حتى أنه قال " والله لومنعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم عليه "
الأمر الثاني هو أن يبرز كذلك أن من يصلح لشأن العقيدة قد لا يصلح بالضرورة للقيادة السياسية فالعابد المخلص قد لا يكون بالضرورة سياسيا ناجحا، فالرسول الكريم حين طلب منه الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري توليته قال له الرسول الكريم " يا أبا ذر إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة "، وهنا يبرز الرسول الكريم قيمة قوّة الشخصية في القيادة السياسية.
الأمر الثالث هو أن لا يذهب الناس إلى أنّ تقديم شخص بعينه من المتنافسين لإمامة الناس في الصلاة هو إشارة لتفضيله على البقية وهو ما فهمه الناس من تقديم الرسول الكريم لأبي بكر في الصلاة، وهي ما نسميها اليوم بتكافؤ الفرص، حتى أنّ الصحابي الجليل ورئيس الهيئة المستقلة الأولى للإنتخابات عبد الرحمان ابن عوف، عندما أحضرت جنازة عمر، تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه فقال لهما عبد الرحمان ابن عوف لستما في هذا من شيء إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس كما ورد في تاريخ ابن كثير.
أراد عمر إبن الخطاب أن يرسي نظاما جديدا لإنتقال السلطة، فقام بتأسيس أول هيئة مستقلة للإنتخابات أو مجلس شورى مضيق يحدّد الأجدر للقيام بشأن رئاسة الدولة، فقام الصحابي الجليل عبد الرحمان إبن عوف بتطوير الأمر وأخرجه من إطاره الضيق للهيئة ليصبح إستفتاءا لا أقول عاما وإنما هو إستفتاء وإن كان على نطاق ضيق، ولكنه يبقى دائما بالرجوع إلى ظرفه الزماني طفرة كبيرة في إطار إرساء منظومة جديدة لإنتقال السلطة، ويعتبر الإستفتاء اليوم آلية من آليات الديمقراطية المباشرة عرفتها دولة الخلافة منذ سنة 644 م، أقرّها عمر إبن الخطاب ودعمها، ولم يتّهم عبد الرحمان بالكفر أو الزندقة ولم يتّهمه علي ولا عثمان بذلك، بل أخذ عليهما العهد والميثاق لئن ولّى أحدهما ليعدلنّ وإن ولّى عليه ليسمعنّ وليطيعنّ، ولو أن من بعده بنوا سياسيا على ما أسّسه عمر إبن الخطاب لكان العرب هم أول من أسّسوا نظاما ديمقراطيا مؤمنا، فمآلات الأشياء في تطورها التاريخي قد تنسينا في تواضع بداياتها، ولو أن جوزاف نيكولاس كونيو أول من صنع سيارة تعمل بمحرك سنة 1769 م يعود اليوم لما صدّق أن سيارته المتواضعة ستتطور بهذا الشكل الرهيب الذي نعرفه اليوم، ولكننا كعرب لا نحسن البناء على الموجود فما بالك بالبناء على الماضي، ويتجلّى ذلك في مخطّطاتنا الوطنية التي تنسف مع كل مسؤول يغادر لنعيد البناء من جديد.
أمام هذه الحقائق التاريخية يمكن أن نسأل عن الخلفية التي يعتمدها بعض الحداثيّين لإتهام الإسلام بالتخلّف والإنحطاط من جهة ومن جهة أخرى عن الخلفية التي يعتمدها بعض الغلاة والمتشددين من الإسلاميين ليحكموا على الإنتخابات بالكفر.
في النهاية أقول أنه على النخب الفكرية التونسية أيا كانت توجهاتها الإيديولوجية حتى تلك المريضة منها بشيء إسمه الإسلام وخاصة السّياسي منه أن يعيدوا قراءة التاريخ بطريقة علمية وموضوعية لينفضوا عليه غبار الجهل والنرجسية التي حملت حكام العرب والمسلمين منذ الفتنة الكبرى وحتى اليوم على الدوس على كرامة الناس من أجل السلطة وإلباس إستبدادهم لباس الدين الذي هو منهم براء، وأن يتصالحوا مع تاريخهم وحضارتهم وقيمهم لأنه الطريق الوحيد المحقّق للعزة والتّقدم والرقي الثقافي والإقتصادي والتربوي.