2016أسقط نرجسية وسائل الإعلام

Photo

إذا كانت ثمة نرجسية بقيت لوسائل الإعلام التقليدية في العصر الرقمي وزمن المواطن الصحافي، فإن عام الصدمة 2016 قد أسقطها بالفعل، وجعلها تدور على نفسها متسائلة عن الثقة المتبقية التي تربطها بالمتلقين، هل مازالوا يثقون بنا؟

يمكن وصف 2016 من دون تردد بعام الكآبة بالنسبة إلى وسائل الإعلام، فكل الاستبيانات والأرقام التي استبقت بها الشأن السياسي في العالم سقطت بطريقة مريعة، وبشكل جعلها تفقد ثقتها بما تنتج، بعد أن فقدت ثقة الجمهور بها.

إنه نوع من التعالي وقطع الصلة المباشرة بالجمهور باعتباره مصدرا موثوقا، بدلا من الاعتماد على الدراسات ومراكز البحوث والاستبيانات التي تبني خلاصاتها على توقعات تقريبية.

لقد فشلت وسائل الإعلام التقليدية في إعادة اكتشاف محتواها في مقابل تصاعد المحتوى السريع الذي تقدمه شركات الإنترنت عبر الأجهزة الذكية المحمولة، وتفاقمت معضلتها عندما واجهت تحدي تحويل الجماهير الرقمية المتنامية إلى إيرادات وأرباح. كان أكثر ما تواجه به التراجع الذي أدخل وسائل الإعلام التقليدية إلى السوق المريضة، توجيه أصابع الاتهام إلى شركات الإنترنت الكبرى واعتبارها تقود منافسة غير عادلة واحتكارية، بينما ذهبت شركتا غوغل وفيسبوك مثلا إلى استقطاب فئات أكبر من الجمهور النهم لاستهلاك المحتوى السريع والمتجدد.

الصدمة السياسية كانت أكثر وقعا على وسائل الإعلام التقليدية، من خسارة طبيعة المحتوى المتميز الذي سبق أن وعد به إمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ، دون أن يفي بذلك، فصحيفته الرقمية التي أنتجها مع شركة أبل لم تعمر كثيرا، وفكرة بيع المحتوى على الإنترنت لم يجد من يشتريه، فعادت صحفه الشعبية لفكرة تقديم المحتوى المجاني، من دون أن تستقطب القراء، الذين باتوا مستخدمين مخلصين لمواقعهم الاجتماعية.

في هذه الأثناء كانت شركة غوغل أكثر تقدما، وموقع فيسبوك صار منزلا عظيما يجمع أكثر من مليار ساكن في أروقته، ويقدم كل شيء، فيما وسائل الإعلام التقليدية مازالت تعيد قراءة فكرة تقديم المحتوى المتميز، من دون أن تصل إلى ما يجذب فعلا!

صدمة “الثقة” كانت آخر ما أجهض بها العصر الرقمي على وسائل الإعلام التقليدية، وتمثلت في بريكست وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، بينما كانت وسائل الإعلام توحي بثقة مبالغ فيها للقراء بغير ذلك، وهذا ما دفع ميغان كيلي المذيعة في قناة فوكس نيوز إلى اعتبار الأمر ذي صلة بثقة الجمهور المتراجعة بوسائل الإعلام “ثمة فجوة تتصاعد بين الطرفين فالجمهور لم يعد يصدقنا، الأميركيون مثلا لم يعودوا يبالون بكل ما تكتبه الصحف، وهذا مؤشر خطير ومقلق”.

لأن “الجمهور لم يعد يصدقنا” فذلك يعني ببساطة أن وسائل الإعلام عاشت 2016 عام الكآبة الذي أسقط نرجسيتها القديمة وأرغمها على خلع ربطة العنق الكلاسيكية، لأن المصنع الرقمي الإخباري لم يعد يتحمل اليوم محرري المكاتب مشوشي الأفكار والتحليلات المكررة، فيما المواطن الصحافي يصنع مادته الإخبارية من الشارع!

وسائل الإعلام الحرة نتاج الديمقراطيات الكبرى، والأفعال التاريخية لا تكتمل من دون وسائل إعلام مراقبة تمنع الفساد والتغوّل، وفي عام 2016، الخوف والغضب أصبحا عواطف سياسية مُهيمنة في كبرى الديمقراطيات في العالم وأكثرها استقرارا واستدامة، ولم تكن وسائل الإعلام بريئة في هذا التصعيد الخطير الذي جعل من العواطف أكثر غرائزية وأقل جاذبية، وهذا ما يهدد فكرة الديمقراطية التي تعمل من أجلها وسائل الإعلام.

اندلاع مثل هذه العواطف البدائية يُثير القلق وفق تعبير مارتن وولف الكاتب في صحيفة فاينانشيال تايمز، لأن من الصعب احتواؤها، الديمقراطية في أعماقها هي شكل مُتحضّر من الحرب الأهلية، إنها صراع على السلطة تحتويه التفاهمات والمؤسسات.

يقول وولف “كلما كانت العواطف أقوى والطموحات أكثر احتواء، أصبح على الأرجح أن النظام الديمقراطي عُرضة للانهيار نحو الاستبداد، الغوغائيون هم نقطة المقتل بالنسبة إلى الديمقراطية”.

سيكون مقتل الديمقراطية أشد بشاعة عندما تصبح وسائل الإعلام شريكة في عملية القتل، أو تكف عاجزة بوصفها سلطة رابعة عن احتواء مثل هذا الاستبداد بوسائل مقنعة ومؤثرة.

في عام 1979، استاء دينيس هيلي، وزير المالية البريطاني آنذاك، من لوحة إعلانية كتب عليها “حزب العمال فاشل”، واتهم حزب المحافظين “ببيع السياسة وكأنها مسحوق صابون”.

أن يتحول الأمر اليوم إلى أن تبيع وسائل الإعلام مساحيق تجميل غير نافعة لقصصها وتحليلاتها الإخبارية، فإنها في النهاية لن تجد لها سوقا.

قد تكون تلك وسائل الإعلام التقليدية في حالة تراجع بتقديم المحتوى المقنع والمؤثر، لكنها لم تزح تماما من مواضعها.

الإعلام التقليدي لم يصل بعد مرحلة التلاشي، لكنه يواجه معضلة صناعة المحتوى المتميز التي لم يحلها بعد، ومحنة الحقيقة المفقودة التي تصاعدت في زمن سياسي لم تستطع قراءات وسائل الإعلام معرفة القوة الكامنة والمتصاعدة فيه، إلى درجة جعلت من يوت غينغريتش مستشار دونالد ترامب، يصف فكرة قلق صحيفة نيويورك تايمز حول الأخبار الزائفة بالفكرة الغريبة للغاية، ويتجرأ على القول “إن صحيفة نيويورك تايمز هي الأخبار الزائفة ذاتها”.

كان مثل هذا الكلام يقوله العراقيون عن نيويورك تايمز وهي تكتب بثقة مفرطة عن أكاذيب أسلحة دمار شامل تمتلكها بغداد قبل احتلال العراق وتدميره، لكن الزمن كان مختلفا آنذاك، لم يكن مثل هذا التأثير لصوت الناس على الشبكات الاجتماعية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات