حفــرُ اللغةِ في ثنايا الذّاكرةِ / قراءة في رواية " الثقب الأسود"

Photo

تصـديـــر

إنّ الكلامَ على الكلامِ صعبٌ – أبو حيّان التوحيدي تنــويـــه : إنّي ، الممضيَ أعلاه أقـرُّ وأشهدكم أنّنا إزاءَ كاتبٍ ذكّيٍّ مُتفلِّتٍ ، لذا وجب الانتباه والحذر ، ارفعوا كلّ تعاطفٍ معه .

تَـقـديــم :

عن دار الثقافيّةِ للنّشرِ والتّوزيع صدر للكاتبِ المحتفى به عبد اللطيف العلوي رواية " الثقب الأسود " ربيع هده السنة سبع عشرة وألفين ، في إخراج أنيق جذّابٍ وإيحائيٍّ ، حيث طغي فيه السّوادُ على البياضِ، ومن خلال لعبة السّوادِ والبياضِ تدشّن الرواية لعبةَ قراءتها. أمّا من حيث الحجمُ فهي بين المتوسّط والكبيرِ ، حيث جاءت في تسعٍ وثلاثينَ ومائتيْ صفحةٍ ( 239 ). فصولُها إثنا عشر فصلا عدد فصول السنة (12) مسبوقة بإهداءٍ وتصديرٍ ومُكاشفةٍ . والمكاشفة تقليدٌ لم يُسبق إليه الكاتب ، فلم أقرأ لروائيّ صدّر روايته بتعليل لدواعي الرواية إلّا إذا اعتبرناها حيلةً أخرى من حيل الكاتبِ ، ولعلّ التبرير الذي ذهب إليه الكاتب لا يخلو من حصر لزاوية التّبئير ، وتوجيهٍ للقراءةِ الوجهةَ التي يرتضيها.

Photo

في العنوان:

يَشِي العنوانُ ، منذ الوهلةِ الأولى بمتنِ الرّوايةِ ومضمونِها. فالثقب الأسود مركّب نعتيٌّ ، وإن كانت اللغة تسعفنا بمعنى الثّقبة والثّقابِ ، فإنّها قد تسكت عن معنى الثّقب لأنّه ملتبس ، فالرواية ثقبة في تاريخنا السياسي وخاصّة في بداية التّسعينات سياق الرّواية وثقاب في مستقبل وطننا وثقافته ، أمّا الأسود فصفة لتلك الثّقبة أو الثّقب ، وقد يدلّ على نقيضه إذا ما توسّلنا بالتّاويل.

Photo

- لقد خشي العلويّ أن تثقب الذّاكرة بفعل الهرسلة والتّعذيب وألاّ نحتفي به وألاّ نحتفي معه بولائم التّعديب في مخافر الشّرطة ومراكز الأمن ومراكز الإيقاف وعنابر السّجون كما رفض أن تشوّه حقبة برمّتها من تاريخ الوطن (نفسه) بفعل المصالحة مع تزييف الواقع وتدجين الاستبداد في زاوية النّسيان، فأراد أن يتخفّف من أحماله وأثقاله فألبسنا إيّاها لنشاركه اللّحظة المثقلة في حركة ولادة جديدة لرجل في منتصف العمر.

Photo

فكانت ولادة رواية «الثّقب الأسود» التي قد نحار في تصنيفها ونختلف اختلا فا بيّنا، لأنّها جامعة مانعة لعديد التّصنيفات أو قلْ هي من الرّوايات التي تأبى التصنيف والتنميط كما كاتبها وهو « شاعر روائيّ، ليس منهم». فلئن كانت إلى أدب السّجون تشدّ بوتد فإنّها لا تنفي عنها رواية الواقع السّياسي والاجتماعي، رواية التّوثيق والتوطين، رواية الوعي في مقابل الزّيف، فهل هي رواية الفكرة أم هي رواية الموقف ؟، قطعا هي ليست رواية المهادنة .

Photo

إنّها إذن رواية الرّفض والتّمرّد على نواميس الجلاّدين وقوانينهم كما هي رواية التحرّر من قوالب تصنيفات النقّاد ، فالثّقب الأسود أزعم أنّها رواية الاحتفاء باللّغة والذّاكرة لأنّها رواية الحال أكثر منها رواية الحدث، فهاجس صاحبها يتجاوز حفظ الذاكرة وتسجيل أحداثها وتوثيقها ، لأنّه من اختصاص المؤرخين إلى تسجيل موقفه منها ، موقف من مفاهيم وتصوّرات لعوالم السياسة والاجتماع ، فالرّوائيّ بالمفهوم "القريماسي" مثقّف عضويّ لا يكتفي بتسجيل الوقائع بل يشحنها برؤاه وتصوّراته ولا يتوانى عن إبداء موقفه منها.

بناء الرّواية الحدثيُّ :

الحدث في الرّواية يكاد يكون خافتا بطيئا متثاقلا فاسحا المجال لراو عليم يسيّر شخوصه ، وكثيرا ما يجرّدهم من فاعليّتهم. وكدأب الروائيين الكبار فقد أنطق الكاتب شخصيّاته وسبر أغوارها وصفّفها لتبوح بما اعتمل في دواخلها في انضباط عسكريّ شاقّ لا غرو فقد استعار سلطة جلاّديه ليمارسها على شخوص روايته. أمّا الزّمن في الرّواية فغير الزّمن لأنّك لا تستطيع ضبط إيقاعه نظرا لتكسّر خطّيته أمام حالات الاسترجاع التي تطبع البناء الحدثيّ، فالرّواية رواية التّذكّر و الاستحضار تبدأ الأحداث فيها من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ، تبدأ من قتل فدوى العمدوني طليقها "الماصّ" لتعود أدراجها في تداع زمنيّ مربك، فتنساب التّداعيات و الاسترجاعات وتولد من رحم المأساة مأساة ومن رحم الألم ألم يعاضده ومن الحنين حنين أشدّ و أقسى في متاهة ارتداديّة قلّما قرأتها في رواية. وتنتهي الرّواية باللّقاء فالوداع في سيرورة حدثيّة تمتح من الماء سيلانا وجريانا لتظلّ النّفس صافية رقراقة فالماء إذا ركد أسن … إيذانا بمضيّ الرّحلة إلى منتهاها …

Photo

قلت إنّ الرّواية رواية احتفاء بالفعل والموقف والثّبات في لحظة لا شيء فيها ثابت غير سكون الأوضاع السّياسيّة و الاجتماعيّة وركود مائها ، في تلك المرحلة كان لا بدّ من بطل تراجيديّ مثل خالد الشّرفي الذي هو في النهاية الشخصيّة القناع التي يتخفّى وراءها الكاتب ويشحنها بكلّ مواقفه وهمومه وشواغله مخاوفه وهواجسه … أخذ من الكاتب عناده وكبره وتمرّده بعد أن كان رجلا عاديّا " يأكل الخبز بالجبن " كسائر أبناء منطقته الجبليّة ، بيد أنّ غباء السّلطة جعل منه بطلا حقيقيّا بعدما كان بالنسبة إليهم مجرّد ورقة في مهبّ الرّيح ، ورقةٍ في حبائل لعبتهم القذرة لعبةِ التخويفِ والترهيبِ للقضاء على كلّ مظهر من مظاهر المطالبة أو المواطنة أو المعارضة …

Photo

امتهانا لإنسان مهمّش في موطن مقصيّ وفي وطن محتكر جعلوا منه مزرعةً للحيوان … لقد استفاد البطل من لقائه بشخصيّة عامر الصّالحي أيّما استفادة ، ورغم النهاية الطبيعيّة للتعذيب والهرسلة والمحو والتّغييب حيث قتلت السلطة عامراً الصالحيَّ بيديه ،كما يرى الكاتب ، فإنّ الشرفي قد استلهم منه الثبات والطمأنينة وخبر بدلك سبل الانعتاق والانبعاث والتحرّر من قيود الخوف والاستكانة والخنوع ، فانبرى يعبث بجلاديه لغة ووصفا وتصويرا كلما عبثوا بجسده ركلا ورفسا و تعذيبا ، فبطش الجلاد الجسديُّ والنّفسيُّ قد قابله بطش استعاريّ ، لم يكتف فيه الراوي البطلُ برفض أوامر جلاده ومخطّطاته ومناوراته، بل ذهب أبعد من ذلك، حيث جعل الجلاّد نفسه وسيلة للتهكم والسخرية ، فأخرجه في صورة بائسة حقيرة تذكّرنا بصورة الشاويش جاد الله في أقصوصة نبّوت الخفير لمحمود تيمور.

Photo

الرّواية واللّغة :

الثقب الأسود رواية تحتفي باللغة احتفاء شعريّا تقلصت فيه المسافات بينها وبين لغة الشعر ، ولا غرابة فالروائيّ بالأساس شاعر أغوته الكلمة منذ نعومة أظفاره، ولكنّ السلطة أبت إلّا أن تحرمنا من أصوات شعريّة كان يمكن أن تعضد جهودها في إرساء تصوّر للإنسان والأوطان ،ولعلّ ما عاشه الشاعر منوّر صمادح خير دليل على مكانة الثقافة والمثقفين في دولة " القانون والمؤسّسات " كما يدّعي القائمون عليه حينها. تهميش بتهميش وتجرّؤ بتجرّؤ والبادئ أظلم ، لقد حاكمت الضحيّة الجلاّد ، وظّفت سلاحه ووسائله ، سبرت أغواره ، شرّحت نفسيته ، كشفت عن أمراضه وعلّاته وتشوّهاته ،عرّت هشاشته ، أجرأت عليه وأ طردته من عوالمها…

Photo

الثقب الأسود عفويّة في أسلوبها ، لولبيّة في سرديتها ، حفّارة في ذاكرتنا السياسيّة ، دون أن يكون الماضي مبلغَ همِّها واهتمامِها ولا تصويرُ ما يجري داخل السِّجْـنِ وفضح ُالسجّانِ أقصى طموحها ، ولكنّ تبيّنَ أسباب إنتاج الاستبداد غايةٌ منشودةٌ ومستقبلَ الإنسانِ وإقامتَه على هذه الأرضِ هـمٌّ لا يخفى ، لذا ألحّ على أنّ الكاتب لا يستدرّ لا عطفا ولا رثاء ، لقد خرج من محنتي السّجن والرّواية أشـدّ قوّة وأكثـر ثباتا وإيمانا بجدوى الحفر في الذّاكرة لاجتراح المعنى …

Photo

من ثنائيّة الألم والأمل ولدت الثّقب الأسود ، ومعها ولد عبد اللطيف العلوي ، كاتبا كبيرا ، ومكمن الشّفقةِ في قدرة الكاتب على الّتجاوز والاستمرار … نهاية عامر الصالحي كانت في تصوّر السّلطة نهاية لمشروع ولتصوّر للسياسة والحياة تشي به رمزية الاسم وسمات الشسخصيّة ، ولم يدر بخلد حكامها أنّ من النهايات المأسويّة تولد التحوّلات الحقيقيّة ، فالصّالحي قتل ولم ينته ، فقتله بيديه إيذان بنهاية جلاّد ونهاية مرحلة ، وإيذان ببداية حلم وبداية تصوُّر للسياسة والحياة والوجود …

Photo

تطارد الثقب الأسود سلطةَ القمع وتزييف الوعي مطاردة لا تنتهي ، رغم الجراحات والعذابات بالتهكّم من قادتها و رموزها ، من حاشيتها وسدنتها ، ومن جوقتها وأبواقها وعبيدها ، فها هو القائد الذي صنع من ذرّاتنا شعبا ولم نكن قبله شيّا ونزع عن أثوابنا وأجسادنا القمّل قد جعلت الجوقة منه نصف إله وأعادت زرع القمّل في العقول والقلوب لا في الأجساد والأثواب ، وها هي المدرسة الابتدائيّة التي تأسّست في ثلاثينات القرن الماضي لم تنج هي أيضا من أفضال الزعيم وبطولات الزّعيم …إنّنا إزاء كسر لكلّ " تصنيم " وتحنيط ، كسرٍلكلِّ تنميط وتأليه وتزييف لطغمة من آكلي لحوم البشر الجدد ، فالثّقب ضرورة وصرخة في وجوه الآكلين القدامي والجدد كائنين من يكونون ، وقد تردّد مع شأس بن عديّ :

فَإنْ كُـنْـتُ مَـأكـولاً فَـكُــنْ خَيْــرَ آكِلِــي ////// وإلاَّ فـأَدرِكـنِـي ولَمَّـا أُمَـــزَّقِ.

Photo

على سبيل الخاتمة :

لم أشأ في هذا الحيّز من تقديم الرّواية المقارنة بين رواية الثّقب الأسود ونظيراتها من روايات ما سمّي بأدب السّجون لدواع منها أنّ التّقديم الاحتفائيّ لا يتّسع لذلك ، كما أنّ روايات سمير ساسي وبشير الخليفي وأخيرا وليس آخرا رواية عبد الجلاصي لم أنته من قراءتها قراءة متمعّنة ، ولعل الله يسهّل قراءتها والإسهام في التعريف بها ورفع الحصار عنها ، إن جاز التّعبيرُ في الأخير لن يغادر العلويّ ، بعد اليوم مراتعنا ، فله ولأمثاله الجرأة والسّبق في التّشهير بخيباتنا ، ورغم محاولات القتل الماديّ والمعنويّ والإخفاء القصريّ ومحاولات الإقصاء والإذلال والمحو فإنّه لم يرعو وراح يكسر قيود الذلّ والمهانة والبالي من عاداتنا ، فكان في سجنه حرّا وكانوا في حرّيتهم سجناء …

لقد جنّح العلويّ في هذه الرّواية حتّى استحال السواد بياضا والثّقب ثقابا وقبسا لكلّ من تسوّل له نفسه أن يطفئ قبس الحريّة والتعبير. بذلك أرى أنّها رواية نصاعة الحريّة في وجه سواد السّجن والجلاّدين . وللكلام تتمّةٌ والسّلام.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات