"يا سارح" سبة في بلادنا, فإن رعي الغنم في الاذهان مصير كل من لا ينجح في حياته و كأنه برعيه الغنم ينحط إلى قيمة ما يرعى ولا يخطر ببال أحد منا أنها "مهنة" يختارها أحد أو يطمح إليها……تتفنن التعابير المستهجنة وتتالى الصور التي تصل الرعي بالجهل والضياع والوسخ وكريه الروائح وقبلها جميعا ب"الكسل" فإنها مهنة من لا يريد بذل الجهد ويستهويه منها تجوال طوال اليوم بين المراعي لا يكلف صاحبه تفكيرا ولا اجتهادا ولا حيلة……فيقال للفاشلين منا: "لم يبق لك إلا أن ترعى الغنم في الجبال"…..
لم تكن صورة الراعي أمس كصورته اليوم بل كانت هذه الصورة نقيض ما هي عليه اليوم……..
شاءت الأديان أن يكون كثير من رسلها رعاة، فقد رعى محمد عليه الصلاة والسلام الغنم وكذلك فعل موسى عليه الصلاة والسلام فلما سئل عن عصاه أجاب:
" هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17]"
و أبدع الرومنطيقيون في وصف الراعي بل تشبهوا به ولا نحصي منهم من كتب القصائد الطوال ونسج بديع الصور في هذا، أقربهم إلينا التونسيين، أبو القاسم الشابي ناظم قصيدة "من أغاني الرعاة" و فيها يقول:
قد أفاق العالم الحي، وغنى للحياه
فأفيقي ياخرافي، وهلمي يا شياه
واتبعيني يا شياهي، بين أسراب الطيور
املاي الوادي ثغاء، ومراحا وحبور….
و لا عجب أن يلتقي الرسل والشعراء الرومنطيقيون في صورة الراعي فإن الشاعر عند الرومنطيقيين "نبي" حامل رسالة إلى البشرية…..
"الرسالة"، هذا هو المعنى الذي حمل صورة الراعي في بعدها الرمزي: فكما يهدي النبي الناس إلى قوام السبيل، يفعل الشاعر……………… وقد ترددتْ صورة "الهداية" و حملتها استعارة "الراعي" في أدبيات النصارى وفنونهم فكان المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام عندهم "راعي الإنسانية" وما انفك الرسم الغربي يصور المسيح وهو رفقة شياهه رامزة إلى الإنسان………..
"القيادة الرشيدة"، "الهداية المستنيرة بنور السماء"……. هي رمز الراعي في المخيال الديني، لا مخيال ديانات التوحيد فحسب بل كذلك الديانات القديمة ولا نحصي تماثيل أبولون مثلا تحيط به شياهه في مشهد لا يختلف رمزيا عن مشاهد تنزل رسل الديانات التوحيدية المتأخرة منزلة الرعاة……………..
"الراعي الهادي إلى سواء السبيل" صورة سرمدية إنسانية متعالية على الزمان والمكان تنتمي إلى رأس مال الإنسانية الرمزي وإلى مخيال جامع عابر للقارات والقرون………….
في خطبة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نصادف لفظ "الراعي" وقد تجاوز معنى "رعي العنم" وكذلك تجاوز بعده الديني ليعانق مجالات الفعل الإنساني كاملا ف "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته" ويضيف عليه السلام مفصلا:" الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ ومَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..
المسؤولية و الدعوة إلى تحملها من هذا الكلام جوهر… يقف الرسول راعي الانسانية بين الناس ويحملهم المسؤولية وقد علم أنه مغادر هذه الحياة…… والمسؤولية في الخطبة، دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية……
هي الخواطر التي مرت بذهني وأنا أتقبل خبر ذبح راعي جلمة - رحمه الله ورحمنا بعده - , فبدا لي الخبر إشارة رمزية مشحونة بأسباب الفزع، فقد صادف ذبح "الراعي" (وقد قضى راع تونسي آخر قبله) لحظة تاريخية تقترب فيها البلاد من الدمار الشامل في ضياع أشبه بالجنون…..
و تشاء الاقدار أن يكون راعي جلمة يتيما – ولليتم رمزيته كذلك - وأن تكون أمه فاقدة البصر…. كان ابنها الراعي الصغير بصيرتها فيذبححه فاقدوا البصيرة……. لم ينقص من المشهد الأسطوري غير "الناي" آلة الراعي الملازمة له وهي الآلة التي سقاها سر النبوة - كما تقول الأسطورة - ليتصل بفضلها كل عازف على الناي بالسماء ويخاطب الأوراح……………….
ما أحوج الانسانية اليوم إلى "راع" يهديها سواء السبيل ويعلمها المسؤولية حتى إذا اشتد عودها خطب فيها خطبة وداع وأوصاها بالأرض…. بل ما أحوجنا إلى راع منقذ يضرب الأرض بعصاه التي يهش بها على غنمه فينفتح طريق ويرتسم أفق…….. والله هو الهادي من قبل و من بعد……………………