بمناسبة صدور كتاب الأستاذ المحامي الباريسي هنري لوكلار Henri Leclerc بعنوان "القول و الفعل"1 (La parole et l’action) ، يُسعدني أن أقدّم هذا الصّديق العزيز لي و للشّهيد فيصل بركات . هذا المحامي القريب إلى القضية التّونسية في سنوات الجمر و الخداع هو رئيس الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان بين 1995 و 2000 و هو يُعتَبر بشيء من الإجماع أبرز المحامين الفرنسيين الكبار الذين لم يكدْ يبقى أحد منهم مباشرا إلى وقت قريب . و هو في كتابه الذي صدر في 30 أوت الماضي يعرض 60 سنة من المعارك القانونية و المواجهات مع الرّأي العام لتولّيه الدّفاع عن متّهمين بجرائم بالغة البشاعة في بعض أشْهَرِ القضايا الجنائية و السياسية ، وهو ما عرّضه إلى الإعتداء الجماعي في الشّارع . كما دافع عن القضايا السياسية العادلة و على رأسها القضية الجزائرية و حاملي حقائبها من الفرنسيين الأقحاح ...
العنوان الفرعي للكتاب هو "مذكّرات محامٍ مناضل" ممّا يفيد بأنّه ربّما مثّل نقطة نهاية فعلية للحياة العملية لهذا المحامي الذي
غلاف الكتاب
عرضْتُ عليه منذ سنة 1995 الدّفاع عن جمال بركات و عائلته كمعنيين بالشّكوى التي رفعتُها إلى اللّجنة الأمميّة ضدّ التّعذيب في 29 مارس 1994 .
كنت قد واجهت عائقا شكليّا يتمثّل في إثبات أهليتي للتّكلّم باسم آل بركات في حقّ ابنهم المقتول في مثل هذا اليوم من سنة 1991 . وكنت أعلم أنّني سأجابِه رفض قضيتي إن لم أتوصّل إلى إقناع اللّجة بتلك الأهلية دون السّماح بأن تنقل إلى السّلطة علاقتي المباشرة بجمال بواسطة الهاتف و الفاكس . عندها خطر لي أن أقصد الأستاذ لوكلار ، الذي أعلمته بأنّي رفعت شكوى لصالح شخص لا أعرفه ولكنّي متيقّن من أنّه قُتل تحت التّعذيب ثمّ طرحت عليه حيرتي بين الحاجة إلى إجازة قضيتي من جهة و ضرورة الحفاظ على أمن عائلة الضّحيّة من جهة أخرى . هنا طرحْتُ عليه فكرة أن يذهب إلى تونس حيث أنظّم له مقابلة مع الإبن الأكبر للعائلة فقبل مبدأ الفكرة و لكنّه عرض إرسال اثنتين من معاونيه الأستاذتين نتالي سينيك (Nathalie Sénik ) و فريديريك بوليو (Frédérique Baulieu) ، اللّتين نسّقت لهما الزّيارة مع العميد المرحوم سيدي محمد شقرون طيّب اللّه ثراه ، الذي كان قبِلَ استضافة لقاء الزّائرتين مع الضّحيّة جمال بركات .
وقد كنت اتفقت مع الأستاذتين على أن تأتياني بتكليف رسميّ لي من العائلة إلى اللّجنة الأمميّة . أخطرْت جمال بضرورة الحضور إلى مكتب العميد في اليوم و السّاعة وتمّ كلّ شيء على ما يرام . إلاّ أنّ جمال اعتذر عن تقديم التوكيل طالبا الإمهال وعادت المحاميتان إلى باريس بإثبات علاقتي بالعائلة الضّحيّة و لكن دون الوثيقة التي كانت تحسم الأمر بكلّ وضوح ...
بعدها بأيام ، طلبَتْ المحاميتان من العميد محمد شقرون أن يمدّهما بموقف موكِّلِه فكان أن أشرت على جمال بعد مفاوضة أن يوجّه رسالة التكليف إلى مكتب الأستاذ لوكلار مباشرة بواسطة الفاكس وهو ما تم مع العلم أنّني كنت حصلْتُ على موافقة الأستاذة راضية النّصراوي على أن تتولّى الدّفاع عن عائلة بركات في تونس العاصمة و لدى الهيئة الأمميّة في جنيف فطلبت من جمال أن يربط الصّلة بها و هو ما كان فعلا حيث بقيت مدافعة عن العائلة منذ ذلك التّاريخ .
من ثمّ قام الأستاذ لوكلار بإبلاغ اللجنة الأممية بأنّه تلقّى خطاب تكليف العائلة لي مضيفا طلب أن لا يُحال إلى الخصم و هو ما حصل .
. إلاّ أنّ اللّجنة رفضت اعتماد الشكوى 14/1994 لاعتبارها ضرورة إبلاغ الدّولة المشتكى بها بهويّة الشّاكي و بأهليّته للتّظلّم باسمها
من هناك كانت المحاولة الثّانية و التي قبِل فيها جمال مشكورا أن أُعطي الضّوأ الأخضر للّجنة بأن تحيل إلى الحكومة ، مع الشّكوى الجديدة 60/1996 ، كلّ الوثائق التي كانت تحت طائلة السّرّيّة والتي تثبت علاقتي به و تكليفه لي رسميّا باسم والدته و إخوته . وقد سعيت لطمأنته و التخفيف من تشاؤمه ويأسه من الحالة الدّاخلية مع تنبيهه إلى أنّني لا أرى إطلاقا أيّا كان غيره و يدّعي القدرة على تعويضه.
في الأثناء تداولْتُ مع الأستاذ لوكلير في احتمالات المستقبل و كان متحفّزا لكلّ حماقة يمكن أن يرتكبها النّظام ضدّ العائلة ليُخْرجَ له "المدفعيّة الثّقيلة" كما كان يحلو له أن يقول …
على أنّني مع شديد الأسف لا أستطيع العودة إليه الآن لأنّ القضية أصابها وهَن عظيم بفعل مواقف و تحالفات مضادّة للطّبيعة و محيّرة إن لم تكنْ مثْقَلَةً بشبهات مخلّة بالمروءة و الشّرف جعلَتِ الأمور مجمّدة في تونس بفعل الخزعبلات القضائية السّخيفة و استحالة التّقدّم بها في جنيف بِتُهمٍ أخرى غير التعذيب و بمتَّهَمين آخرين غير الجلاّدين القتلة و آمريهم من السياسيين بقيادة كبيرهم المسمّى زين العابدين بن الحاج حمده بن علي . و ذلك ما فتح أمام قتلة الشّهيد و كارهيه من أعوان السلطة البائدة أبوابا مُشْرعَةً للإفلات من العقاب و إجهاض القضية بأيدي أصحابها .
ذاك هو الأستاذ لوكلار الذي كوّنْتُ بمشاركته درعا صلبا من أبرز المحامين2 من تونس و فرنسا لإثباط أيّ نيّة عدوانية للجنرال بن علي تجاه العائلة المنكوبة أو عائلتِي أو الشّهود أو خبيري الطّبّ الشّرعي الصّادق ساسي و عبد السّتّار حلاّب الذيْن قامت القضية على كاهلهما دون غيرهما . و مع أنّ المؤلّف الذي احْتَفَتْ بكتابه الصّحف الفرنسية بإطناب ، لم يذكرْ قضية الشّهيد و لكنّني أتفهّم ذلك و أكرّر تهاني له وشكري باسم الشّهيد وعائلته على كل دقيقة خصّني بها في مكتبه أو قضّاها في الإهتمام بشأن الشّابّ المغدور فيصل بركات من مراسلات و متابعة مع معاونتيه اللّتين لهما كذلك الشّكر الموصول و عسى أن لا يذهب كلّ ذلك سُدى بعبث البعض كالصّبيان من جهة ، و تآمر البعض الآخر كأعتى المافيات من جهة أخرى . ولكنّنا سنبقى في مستهلّ هذه السّنة السّابعة و العشرين مصرّون على مواجهة أيّ عارض حتّى تُردّ المظالم إلى أصحابها و يعاد الإعتبار لشهداء التّعذيب و ينال المذنبون جزاءهم و لو كان انتقاليّا أكثر منه جنائيّا ، نحو العبور ببلادنا إلى السلم الأهلي الذي يتهددُّه التعذيب بالخراب السّريع .
1يذكّرني هذا العنوان بعنوان شبيه لصديقي الآخر الأستاذ المرحوم محمد مزالي : " La parole de l’action "
2راضية النصراوي و محمد شقرون في العاصمة و محمد بوثلجة ، شفاه اللّه ، في قرمبالية ، مرجع النّظر القضائي و هنري لوكلار في باريس ، مركز الثقل الإعلامي للتّواصل و النّجدة و اللجنة الأممية في جنيف حيث القضية الدّولية