مدنيّة تونس.. الاجتهاد والمساواة في الإرث

Photo

أفضى تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة (في تونس) إلى جملة من التوصيات، التي اختار منها رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، المساواة بين الرجل والمرأة ما اعتبره جديرا بأن يشكّل ثورة ثانية، بالمعنى الثقافي للكلمة، تعيد صياغة المجتمع التونسي على نحو مغاير، وهو تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، ورفع جميع أنواع التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية، واعدا بأن يحيل مشروع قانونٍ متعلقٍ بهذا الغرض، في القريب العاجل، إلى مجلس نواب الشعب، من أجل البتّ فيه، حتى يصبح قانونا نافذا مطابقا للمعايير الدولية ومقتضيات الدستور التونسي الجديد.

وبقطع النظر عن المبرّرات التي أوردها، وما زالت تثير جدلا كبيرا، فإن رئيس الجمهورية اختار، لأسباب عديدة، التركيز على الميراث تحديدا، حتى يبدو "مصلحا" يستأنف المشروع البورقيبي، فالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة توقّف عند الميراث، بعد أن منع قانونا وواقعا تعدّد الزوجات، وأحلّ التبنّي.. إلخ.

ويبدو أن بورقيبة اعتمد على نسخ قديمة من محاولات بعض متنوّري مشايخ الزيتونة آنذاك (الشيخ عبد العزيز جعيط، محمد المالكي...) ضمن اجتهاد مقاصدي، يضحّي أحيانا بحرفية النص، انتصارا إلى مقاصد الإسلام الكبرى والنبيلة، لعل أنبلها العدل والمساوة بين خلقه. ولكن حين وصل بورقيبة إلى المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، لم يسعفه آنذاك أولئك المشايخ بأي اجتهاد، فقد رأوا أن ذلك قد يشكّل قطيعةً تجعلهم خارج الشرع أصلا، فتوقف الرجل عند تلك العتبة. تورد شهاداتٌ أنه أبدى أحيانا بعض الحسرة على عدم مضيه إلى الأمام وعدم مجازفته، حتى يسوّي في الإرث بين المرأة والرجل ليستكمل تلك الخطوة.

يطمح الرئيس الحالي إلى أن يستأنف ذلك المسار، وربما يراهن على أن يكتب اسمه في التاريخ، حين يعتقد أنه أكمل مسار تحرير المرأة التونسية، ومنحها مساواة كاملة غير ناقصة، كما تعتقد فئاتٌ مهمةٌ من النخب النسائية.

غير أنه لم يتّبع، في هذه الخطوة الجريئة، منهج بورقيبة الذي أحاط تلك الإجراءات بحزام شرعي ديني، بقطع النظر عن أساليب الحصول عليه، لتبدو مشاريعه تلك اجتهادا دينيا خالصا.

على خلاف ذلك، غيّب الرئيس الحالي تقريبا هذا البعد، فأقصى مثلا من عضوية اللجنة التي أعدّت التقرير أبناء "الزيتونة"، سواء في نسختها القديمة أو الحديثة، أي أساتذة جامعتها الحالية، فلم يكن في اللجنة أي عضو ممثل لهذا الإسلام، حتى في نسخته المتنوّرة.

كما ارتكب الرئيس خطأ بيداغوجيا، حين استهلّ، عند تقديم تقرير اللجنة، بمناسبة عيد المرأة المتزامن مع الذكرى 62 لصدور مجلة الأحوال الشخصية، تذكير الحاضرين حرفيا بأنه "ليست لنا علاقة بحكاية الدين، ولا بحكاية القرآن، ولا الآيات القرآنية، نحن دولة مدنيّة، وتونس ليست دولةً مرجعيّتها دينيّة، بل دولة مدنيّة"، وقفز إلى الفصل الأول من الدستور في قراءة انتقائية، تتجاوز الفصل الأول منه، والذي فيه تنصيصٌ صريحٌ على أن "تونس دولة دينها الإسلام"، فضلا عن أنه ورد في الديباجة صراحة أن الدستور يستند على تعاليم الإسلام.

يبدو أن رئيس الجمهورية، وقد استشعر حساسية ما أورده التقرير المطول (250 صفحة) في مسائل أخرى، على غرار المثلية وغيرها، تجنّب حتى مجرد الإشارة إليها، وهي جزءٌ من حرية الأفراد في توجهاتهم الجنسية، كما يراها بعضهم، في حين يراها آخرون ليست مجرد اعتداء على الأخلاق، بل نسفا للأسرة التونسية التي خصّها الدستور بفصلٍ تكون فيه الدولة مطالبةً بالحفاظ عليها ودعم تماسكها.

أثارت هذه المسائل ردود أفعال متباينة في انتظار مآلات مشروع القانون هذا، إذا عرض على مجلس نواب الشعب. وبقطع النظر عن ذلك كله، فإن لهذا المشروع تداعياته السياسية في أفق الانتخابات التي ستجري بعد سنة تقريبا. يبدو أن الرئيس قد تخيّر مليا توقيت هذه المبادرة التي أعادت مشروع توحيد "العائلة الديموقراطية"، فمنذ يوم 13 أغسطس/آب من العام الماضي، نشطت المبادرات من أجل إعادة قيادات حزب نداء تونس التي غادرته سابقا، مستقيلةً أو من أجل تشكيل أحزاب من خارجه، وقد وصلت إلى ما يزيد عن خمسة.

لقد أعادت هذه المبادرة بعض هؤلاء، وآخرون حاليا في الطريق. كان هذا المشروع قد أعاد فكرة توحيد العائلة المدنية الديموقراطية، وهي عائلة هلامية تلتقي على معاداة حركة النهضة، لكنها بهذا المشروع ستمنح لنفسها مشروعية مشروع اجتماعي، ملامحه التحديث والمدنيّة والمساواة والحريات الفردية. أعادت هذه المبادرة الأمل، لتجاوز الخلافات التي مزّقت "نداء تونس" إربا إربا، وشتّتتهم شقوقا متناحرة، حتى جنوا الخيبة تلو الأخرى، جديدها الهزيمة المدوية في الانتخابات البلدية في مايو/ أيار الماضي. يمنح هذا المشروع للسبسي أيضا، وحزبه تحديدا، أن يظهر مجدّدا كأنه الضامن الوحيد للحداثة التونسية، أي حرّاس النمط، مقابل محافظة "النهضة" ورجعيتها التي بدأ الإعلام ينعتها بأشد النعوت انحيازا وتجنيا (الإخوانجية.. الظلاميين)،

وذلك ما يعمّق الشرخ بين "مشروعين"، يتم تضخيم التباعد بينهما، وحفر الهوة العميقة، حتى تعجز أي مبادرة عن تجسير الهوة قادما. في مثل هذا الشرخ العميق، تزدهر السوق الانتخابية التي بدأت تعرض بضاعتين مختلفتين، إما بضاعة "النهضة" أو بضاعة "نداء تونس" إلى الآن.

ربما سنذهب إلى الانتخابات بلا توافق، وهذا وارد، وقد يكون هذا الاحتمال مكلفا للانتخابات والانتقال الديموقراطي ذاته، وقد يكون ذلك سببا أيضا قد دفع رئيس حركة النهضة الذي غاب عن تلك الذكرى لوجوده في الخارج، كما بينت مصادر "النهضة"، راشد الغنوشي، إلى إصدار بيانٍ ثمّن فيه ذكرى "لقاء الشيخين" الخامسة في باريس، وهو اللقاء الذي رسمت فيه خريطة الطريق، للتوافق الذي يعتقد الغنوشي أنه صنع الاستثناء التونسي. وقد لا يفلح الحنين إلى الماضي في طرد كوابيس الحاضر المرجّح أن تدفع إلى استحضار المعارك الهووية المتنافية في أفق الانتخابات المقبلة.

وفي ذلك كله، علينا أن نستحضر أن الدولة المدنية ليست دولة المؤمنين أو اللامؤمنين، بل هي دولة المواطنين، لكنها طبعا لا تستطيع إنكار المشاعر الدينية لمواطنيها هؤلاء، خصوصا إذا تعلق الأمر بأحوالهم الشخصية.

إغفال تلك المشاعر وإنكار تلك المعتقدات، خصوصا إذا ما تم تعطيل/ إلغاء بعض ما كان يعدّ في دولتهم، عقودا طويلة، وضمن قوانينها، أحكاما دينية (المواريث مثلا) من دون إعطاء تبرير مقنع من داخل تلك المنظومة الدينية نفسها، لن يؤدي إلا إلى توسع جيوب الممانعة والتحفظ.. لذلك سيكون الحوار مهما، والاجتهاد الديني في هذا المجال تحديدا حاسما (مقصد نبل المساواة والعدل بين جميع خلقه، فضلا عن مسارات تمكين المرأة وتحوّلها إلى مصدر بناء الثروة، استنادا إلى قوة عملها وتحصيلها المعرفي، تأنيث الفضاء العام...)، حتى لا يشكل هذا الإجراء، إن تم إقراره، انحيازا للدولة لبعض مواطنيها على حساب آخرين.

المرور إلى السرعة القصوى وفرض هذا المشروع بقوة القانون وحده يمكن أن يثمر نصوصا، لكنه لن يثمر قناعات وثقافة توجه سلوك الأفراد والجماعات، وهم يقولون "ليطمئن قلبي"، تلك العبارة الشهيرة التي عنون بها المفكر الإسلامي التونسي المرحوم، محمد الطالبي، أحد كتبه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات