لن أتحدّث هنا عن أنصار نداء الغنيمة.. ولا مشعوذي الجبهة الهزليّة.. ولا حتّى مُحترفي الغوغائيّات الكاذبة عن العمل النقابي والحقوقي والحداثي.. فهؤلاء جميعا هم القلب النّابض لعواصف الشرّ والدّجل والضحك على الذّقون.
أتكلّم هنا عن الثوّار.. وإن كنتُ صادقا لا أميل لهذه التّسمية "الثوّار" لأنّنا جميعا لسنا كذلك مقارنة بالمعجم التاريخي للثورات عبر العالم.. ولذلك كنت دوما أفضّل كلمة الأحرار.. أفضّلها حتّى على كلمة الأخيار لأنّ الأمر لا يتعلّق بأننا قد آستقررنا في أصل الخير بقدر ما نحن من هواة الخير لا من المتأبّدينَ فيه.
على كلّ.. ما أودّ ملاحظته والتّنبيه له بكامل الحرص.. هو أنّنا كأحرار لا يمكننا أن ننتصر في معركة ضدّ الأشرار ونحن نستعمل نفس أساليبهم ومناهجهم.. وانّ الأسلوب التّعيس يعبّر حتما عن جوهرٍ تعيس.. فلا توجد فكرة رائعة يقع الدّفاع عنها بمناهج قبيحة.
ثانيا.. هل يوجد فرق كبير بين الأشرار الرّاغبين عبر معركتهم في الإستيلاء على الكنوز المادية وبين الاحرار الراغبين في حيازة كنوز الشهرة والبريق والمجد: أرى كلا الفريقين يبحثان أساسا عن تعبير مناسب لفيوضات روحية متشابهة: تكريس الأنا جوهرا للعالم.
ثالثا.. الأيادي المرتعشة لا تصنع التاريخ.. هذه نعرفها جميعا.. ولكن ما بالكم بالقلوب المرتعشة والمبادئ المرتعشة والأحلام المتهاوية ؟؟
إنّي أرى أغلبكم.. يتكلّم عن الثّورة دون أدنى إستعداد للموت، يعني ثوّار متقاعدين أو ثوّار سينما.. أو ثوّار يراقبون الثّورة بالنظّارات من كواكب أخرى..
الكلام عن الثورة عموما في بلدي لا يقوم تعبيرا حقيقيّا عن حالة ثورية صادقة بل هو أشبه بهذيان عصابي لثوري سابق هارب من أرض المعركة.. نحن لسنا ثوّارا لكنّنا مرضى ومجانين في حالة هذيان ثوري.
رابعا.. أراكم خائفين ومتردّدين وغير مستعدّين للمخاطرة في حين يكمن جوهر الحريّة في المغامرة خارج أسوار السّجن الأليف للوهم.. ويكمن جوهر الثّورة في المخاطرة بزعزعة اليقين الكاذب لأنظمة التّدجين المستمرّ للحقيقة..
إنّ الحرّ كما الثوري.. يجب أن يكون على إستعداد دائم ليمتحِن نفسه في ميادين الإبتلاء والقيم.. وليس طبعا ذاك النّاطق بالثورة وأصابعه ترتعش على الزّناد.. وأفكاره تدور كلّها حول الغنيمة والأمجاد الكاذبة صبيحة النّصر.
خامسا وأخيرا.. سأذيعكم أهمّ أفكاري الثوريّة على الإطلاق.. أنّ أكبر الشّؤم وأعظم أسباب الفشل هو أن نحارب لننتصر نحن.. ههه.. كم هي هذه الفكرة ضعيفة وفقيرة.. أنا حاربتُ دوما لتنتصر الفكرة لذلك لم أغادر روح المعركة مطلقا..
إنّ من يحاربون ثوريّا من أجل أن ينتصروا هم أو شعوبهم سينتهي بهم الأمر حتما في حال النّصر إلى التعفّن في مزابل السّلطة والتحوّل رويدا رويدا إلى طغاة ممسوخين كحال جميع الثوريّين الكبار في القرن الماضي.. وفي حال الهزيمة سيتحوّلون إلى يائسين وكافرين بالثورة والشعب.. لكن وحدهم الّذين حاربوا لأنّ الحرب ذاتها هي القيمة الأسمى للوجود (هنا بالذات صرتُ نيتشه إسلامي).. ولأنّ الأفكار والأحلام والمعاني هي الجديرة بالتّضحية وليست لا أنفسنا ولا شعوبنا جديرة بذلك..
من يفهم أنّ الهدف الأسمى ليس الوصول إنّما الهدف هو الطّريق نفسه.. سيدرك كلامي: الثورة كما الحبّ إذ ليس الهدف من حبّي لأنثى ما هو الزّواج بها ولكن الهدف من الحبّ هو مزيد الحبّ دوما وأبدا سواء تزوّجت أم لا.
لذلك كلّه.. لا تحدّثوني عن الثّورة.. بل تعالوا نحياها جميعا.. تعالوا ندخل فيها ونرتبط بها إلى الأبد غير مبالين لا بالنّصر ولا بالهزبمة: نحاول أو نموت على الطّريق.
هامش: في تقديري الخاصّ وحتى بعيدا عن المعنى الديني: محمد بن عبد الله سيّد العرب والعجم هو الثّوري الأكبر والأهم في التاريخ البشري.. ولا يمكننا تجاوز سيرته الذاتية إن أردنا فهم الثورة أفكارا وأساليب.. حربا وسياسة.. إنّه عبقريّ التّاريخ وقائد الأحرار جميعا.