لأنّ الوجود عدوّ الفراغ ... نرى الإنسان عموما يملأ فراغات حياته بكل ما هبّ و دبّ من القشّ و الرّوث والمياه العكرة و عظام الحمير النّافقة .. ثم حين تهدُّهُ الشيخوخة و تذلّه الأمراض و المصائب.. ساعتها يشمّ عميقا الروائح الكريهة التي تفوح من فراغات عمره القذرة، فيلقي رأسه بين ركبتيه ويطلق العنان لدموعه و يقول متأوّها : " يا لعمر الكلاب ذاك الذي كان عمري ؟؟ "
ثم يموت تائها و بذيئا و منسيّا بين الأحياء و مستهجَنا بين الموتى.. فيصلّي عليه أناس لا يحبونه و بالكاد يكون بينهم رجل واحد ذو صلاح و تقوى .
أليست تلك هي المأساة الكاملة ؟؟ ... أليس علينا التفكير جديا و عميقا، بماذا علينا أن نملأ حياتنا، بماذا نحشو فراغات وجودنا ؟؟؟
***
أنا لست داعيةَ سياسة .. و لا داعيةً في الدين.. و لا مُنتحِل شخصية مفكر أو مناضل أو ثائر أممي : أنا نضال السالمي .. الصديق الأكثر وفاءا للراحل أوريليانو بوينديا أحد أبطال " مئة عام من العزلة " … أنا صديق رجب في " شرق المتوسط " و حين كنت في الثانوي، لطالما حبست نفسي في فراغات الوجود و بكيت آلام رجب كما لم أبكي يوما آلامي الواقعية فلقد أدركت مبكرا جدا أن الكثير من أبطال الأدب هم أهم بكثير منا نحن الحقيقيين ذوي الفراغات الوجودية القذرة..
أنا النسخة الشبيهة بفلورينتينو أريثا الثائر العاطفي الذي حارب بكل صمود و عناد لأكثر من نصف قرن من أجل حبّه التاريخي لفرمينا داثا تلك التي أخذوها منه و هو في بداية العشرينات واستطاع إرجاعها لأحضان عشقه بعد معارك أسطورية و هو على مشارف الثمانين من عمره ….
أنا نضال السالمي … المعارض الكارثي للدولة و للثورة … السّاخر المزمن من الشعب و من النخبة.. الباحث الكبير بكامل الصدق و الشغف عن الممرات السرية التي عَبَر منها الأنبياء إلى مجدهم الإنساني.. تلك الممرّات العميقة في الروح و التي أضاءت عتمة الشعوب في ليالي التاريخ الشديدة الظلام و البؤس .
يجب الإعتراف دون وجل و لا تردد.. أنّي قليلا ما أعيش بينكم في هذا الحاضر المقرف و البذيء للإنحطاط التام للإنسانية … و أنّي مريض مُنهك من غياب الحقيقة و من جرائمكم الهمجيّة ضد المعنى… و بالتالي فأنا أعيش غالب الوقت إما في التاريخ المجيد للإنتصارات التي حققها الإنسان قديما جدا، أو أعيش مع بعض أبطال الروايات الرائعين.. و لذلك كلما عدت إليكم و رأيت حالكم كيف تملأون فراغات أعماركم بما هبّ و دبّ من القشّ و الرّوث و المياه العكرة و عظام الحمير النافقة إلا و أشفقت لحالكم و تمنيت الدخول لأرواحكم والصراخ بأعلى صوتي :
" أفيقوا من غفلتكم … أفيقوا فإن الحياة قصيرة و لا فائدة تُرجَى من هذا القشّ و الرّوث أمام عظمة الواقعة : واقعة الوجود " .
أنا نضال السالمي لا أدعو إلا للحبّ … و لا أُحرِّض إلا على التأمّل العميق و الحرّ … و لا أطلب من كل العابرين غير دعوة خير .