لم أكن من روّاد التظاهر والمسيرات والحشود.. فأنا أكره التزاحم والاحتكاك والاكتظاظ، وأفضّل المساحات الطليقة حيث نور الله ينير دربي ولا يحجبه عني أحد.. أما دروسي فألقيها أمام جموع الطلبة بآذان صاغية وعقول تفكر، لا أمام الجماهير الغفيرة حيث يطول اللسان ويغيب العقل ...
إن الواجب الوطني هو ما دعاني إلى الخروج، لا معاندة ولا مكابرة، ولا بحثا عن استفزاز أحد.. إنما تنبيها إلى المخاطر التي تُحْدِق بهذا الوطن، وحتى لا أُلام حينما يأتي موعد العزاء على أنني لذتُ بالصمت في الوقت الذي كان عليّ الصراخ..
نعم لقد قبلت الخروج عن صمتي محذرا من آثار الانقلاب، والخروج إلى وسائل الإعلام لأصدع برأيي، والخروج إلى الساحات تاركا شؤوني ودروسي لأقول بأعلى صوت: لا للانقلاب.. دون أن أبتغي من وراء ذلك منفعة ولا مصلحة.. اللهم إلا مصلحة الوطن، قبل أن تغرق السفينة ...
خرجت - وكان بوسعي أن أركن إلى أعلى الربوة - لأني آليت على نفسي ألاّ أستسلم لنزعة الشر تنهشني ولا للحقد يبتلعني ولا للبؤس ينتصر على إرادتي الخيّرة، وأن أستميت في التنبيه والتحذير من الأخطار التي تخبّئها لنا الأقدار في قادم الأيام...
ألم أكن ضد تحالف قروي- الغنوشي، والغنوشي السبسي من قبل.. ألم أعتبر أن حكومة الجملي هي الخطيئة الأصلية ... ألم أقل: إن إسقاط حكومة الفخفاخ كارثة... ألم أعبر عن رفضي لعربدة النواب والنائبات ... ألم تكن تدويناتي قبل 2014 موجهة رأسا إلى حركة النهضة... ألم أحذر مرارا في مداخلاتي الأكاديمية بأن التجربة التونسية الوليدة باتت مهددة بالفشل ... ألم أكن أعلم بخبايا الشخصية التونسية المتقلبة ... ألم أكن على وعي بأن تاريخ هذه البلاد لم يصنعه يوما سكانها، بقدر ما صنعه الفينيقيون والرومان والعرب والفاطميون والإسبان والأتراك والقلوان (الفرنسيون)... وبأننا على مرّ التاريخ لم نكن إلا مخرّبين لا بناة...
وكم تمنيت لو يكون قيس سعيد دكتاتوريا حقيقيا، ليشبع فينا هذا التعطش الرهيب إلى القمع والترهيب الذي برز بشكل مخيف وغير مبرر، أو قل دكتاتورا "جيدا" عله ينجو بالوطن او ما تبقى من وطن …
غير أن من يعرف الرجل يعرف أنه طوباوي حالم غارق في مثاليته، وأنه شخصية عنيدة وانتظارية ولا تجيد الإنصات ولا تقبل الحوار ولا ترضخ إلا للضغوطات الشديدة، وأن صفحات التاريخ تأبى أن تذكر أمثاله إلا كطيف عابر..
من أجل ذلك خرجت: لأقول لقيس سعيد: إن شعبك متعدد ومتنوع، ولم يعد واحدا كما قد يخيّل إلى البعض، وإني أدعوك إلى الترفق بهذا الوطن فانّه لم يعد يتحمّل.. وإلى الترفق بأنصارك فإن منهم نخبا مسكونين بالبؤس والتعاسة، كانوا بالأمس القريب يخاصمونك ويعيّرونك بالدعوشة والرجعية والظلامية والجهل، كما أن منهم شبابا يرتادون مدارس ومعاهد وجامعات لم يزدهم ما يتلقونه فيها من تعليم عمومي إلا فشلا وبوارا.. حتى لم يعودوا يميزون كيف يقطعون الطريق.. فما بالك بالانحياز إلى الحقوق وقيم المواطنة وحسن الاختيار.. أو التمييز بين نظام رئاسي وآخر برلماني، وبين اقتراع على القائمات الحزبية وآخر على القائمات الفردية ... أو الوقوف على المغزى من شعارك اللغز: "الشعب يريد".. وهم الذين نال منهم الإحباط والفشل، وهم يبحثون عمن ينتشلهم من البؤس الذي وقعوا فيه نتيجة التناقضات الصارخة الذي فرضها علينا العصر، فجعلنا نتخبط بين الحلم والواقع.
ولشيخ حركة النهضة أقول: كفاية.. فلم يعد أمامه إلا الاستقالة.. لا فقط من البرلمان، ولكن من حزبه أيضا.. لأن السياسة عهود، وهو لم يف بعهوده.. ولأن السياسة متغيرات، وهو يستعصي على التغيير.. وأن الشرعية انتخابات ومقبولية، لا فقط انتخابات.. وان من يضع كل رهانه من أجل ترضية المنظومة القديمة وإقناعها وينسى شعبه، لابد أن يجد نفسه يوما ما بلا سند ولا دعم .. وإن كان من العيب ان يفكر مجرد التفكير في أن يحل محل قيس سعيد في سدة الحكم مهما كانت الدواعي والأسباب ..فما من سبيل امامه اليوم من اجل فتح صفحة جديدة تحول دون تصدير المناخات المتوترة والبائسة الى الاجيال القادمة إلاّ أن يعلم رئس الدولة بأنه يضع حزبه ونفسه على ذمة أي لجنة محايدة يتم تعيين أعضائها طبقا لمبدإ النزاهة والموضوعية بهدف إجراء تدقيق صارم يشمل فحص كل المرحلة السابقة، حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته عما جرى..
ولائتلاف الكرامة أقول أيضا: إن عدالة الموقف لا يصنع الربيع، وإن السياسة ليست مضمونا فقط، ولكنها كذلك أسلوب وذوق وحكمة، وإنه متى غابت الحكمة والذوق والأسلوب ضاع الموضوع.
أما الحزب الدستوري الحرّ فلن أقول عنه شيئا سوى أنه نفق آخر ينتظر البلاد لن يكون إلا مسدودا.. ذلك أن البؤس لا يصنع الأوطان، بل يقود إلى الاحتراب الأهلي والتخلف.. وإن عصر الإسلام السياسي بعد الاستقلال لم يدشنه إلا بورقيبة عندما جعل الإسلام مرجعية الدولة التونسية.. فلا فائدة من المزايدات الفارغة.
وأما الأحزاب التي فشلت في الوصول إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع وأدركت عجزها عن تحقيق ذلك بالديمقراطية، فلم يبق لها إلا أن تنسحب من المشهد الحزبي والسياسي لا أن تطعن في الديمقراطية وتتوسل الاستبداد والدكتاتورية.
بقيت في الأخير أسئلة أربعة على شعبنا الكريم أن يطرحها على نفسه بلا لف ولا دوران: هل يريد حقا نظاما ديمقراطيا طبقا للتمثيل النيابي !؟ وهل يرضى بمشروع قيس سعيد غير الديمقراطي !؟ وهل يتوقع من المجتمع الدولي أن يتلقاه بالقبول والترحاب !؟ وهل هو واع بأنه يلقي بنفسه في غياهب المتاهات؟
لكل هذا خرجت…