تحية طيبة.. وبعد..
كم يعزّ عليّ بُعدُك حيث أنت، وقد كنتُ أجد في صداقتك الجميلة خير العزاء عن قبح الانقلاب ووجهه البشع.. وكم يحزّ في شعوري أن أجد نفسي مكبّلا بالعجز عن الإتيان بما يعيد إلى جناحك خفقانه الحرّ خارج القفص..
كم يحرقني الشوق - يا صديقي - إلى لقاءاتنا الماضية.. تلك اللقاءات التي خبرتُ فيها معدنك الأصيل: فعرفت فيك "اليساريّ" الملتزم، المعدّل لبوصلة صراعه على إيقاع الوطن لا على إيقاع المعارك الإيديولوجية الزائفة.. وعرفت فيك "العلمانيّ" الحرّ، الذي لم يفقد قطّ ملكة التمييز ولم يجعل من إقصاء الآخر شرطا لتثبيت ذاته.. وعرفت فيك "الحداثيّ" المتجدّد، الّذي يعيش عصره لكن دون ازدراء لثقافة شعبه وهويّته ولا تطاول على تاريخه وإسلامه وعروبته..
يكفيك فخرا - يا صديقي - أنّك لم تدّخر جهدا قطّ للبحث عن أرضيّة جامعة لإدارة الاختلاف بين فرقاء الوطن.. فجعلت من بيتك الصغير قبلة للعلماني والإسلامي، ولليساري والعروبي، وللنّدائي والدستوري، وللقومي والثّوري.. وفيه كان يجلس الجميع إلى الجميع، في حديث عن الوطن وحول الوطن. أما في المقهى، فكانت تعليقاتك وأراؤك ذات نكهة رائقة تضفي على دردشاتنا عمقا وتوازنا، فيزداد بها النقاش متعة وثراء.. ولأكثر من عام والحقّ يقال لم نر منك إلا ما يشرح الصدر بفضل التزامك بمكارم الأخلاق وترفّعك عن سفاسف الأمور، وكم من مرّة عبّرت عن تودّدك بلباقة مهذّبة إلى أصدقائك الجدد لمجرّد انبهارك بما يفاجئونك به من مواهب.
ومع أنك في "مواطنون ضد الانقلاب" كنت رائدا لنا في رجاحة عقلك ووضوح رؤيتك، ومثالا نقتدي به في الصبر والجَلّدِ والتحمّل، ونموذجا نحتذيه في الجرأة والشجاعة والإقدام، فإنك آليتَ على نفسك أن تحافظ على نفس مسافة الاحترام والتقدير مع الجميع، وأن لا يبدأ اجتماع إلا بحضور الجميع، وأن لا يُحسم أمرٌ إلا باتّفاق الجميع.. فكنّا رغم تنوّع مشاربنا الفكرية وتباين أطروحاتنا السياسية كالعائلة الواحدة التي يتحاور أفرادها تحاور العقلاء في غير توتّر ولا انفعال، فيقتربون يوما بعد يوم من الحلم.
باختصار يا صديقي لقد كنت فردا بصيغة الجمع، ورجلا مفعما بقيم الإنسان. فكنت من بين قلائل كانوا يرون بأنّ تونس أخرى ممكنة.. فلم تشغل نفسك بكراهية "زيد" أو الحقد على "عمرو"، بل أقبلت على الناس بلا تحفّظ، دون ضغينة ولا أحكام مسبقة: همّك الوحيد إنقاذ الجمل بمن حمل، وبلورة رؤية شاملة لخلاص الوطن لا تقف به عند مجرّد التخلّص من ورطة الانقلاب.
نعم، لقد تقلّصتْ بعد اعتقالك كثير من مساحات الفعل السياسيّ، وانقلب حال البلاد إلى سوق كاسدة اللهمّ إلا من تجارة بائرة في الضمائر وفي الرجولة: فعاد الخوف يتسلّل من جديد إلى النفوس، وغمس النّاس رؤوسهم كالنعام في تفاصيل الحياة اليوميّة وهمومها، وسقط مطلب "الرّحيل" من قاموسهم مرّة واحدة.. ولكنّ النضال الذي ما زلت توقد جذوته من تصميمك وإبائك وتحفر به من اسمك أحرفا ساطعة في سماء المجد، سيبقى متأجّجا في وجداننا وأوصالنا، لهيبا نخوض به معركة الشرف الفاصلة مع الانقلاب لاسترداد ثورتنا المغدورة وكرامتنا المهدورة وحرّيتنا المسلوبة..
صديقي جوهر..
ربّنا كبير، ومشيئته لا محالة نافذة.. وإنّ دوام الحال من المحال.. فلا يكن في قلبك مثقال ذرّة من شكّ في صدق نفاذ وعد الله بأن تكون الغلبة في آخر المطاف للحقّ على الباطل.. فجولة الباطل ساعة، وصولة الحق إلى قيام الساعة.. وإنك أنت والله هو الحرّ بروحك المتوثّبة وتصميمك الّذي لا يلين.. أمّا سجّانك فهو السّجين والسّجن، وبئس القرار..
فكّ الله أسرك يا صديقي - وآنسَ وحشتك..
وإنّنا لعلى العهد باقون، وللحلم حارسون..