إذا هناك مكسب لا يمكن لأحد أن ينكره سواءا كان من المهللين للإستبداد أو من المنبهين من مخاطره، فهو إمكانية وصول أيّّ مواطن لمراكز الحكم عبر صناديق الإقتراع. هذه حقيقة لا يشكك فيها عاقل. هاته الحقيقة سمحت لأيٍّ كان مهما كانت دوافعه ومهما كانت امكانته الفكرية التكلم باسم الشعب أو باسم جزء منه. يكفي أن ننظر لرئاسة الجمهورية، مجلس النواب أو المجالس البلدية في الجهات، هذا واقع ملموس لا غبار عليه يحدث منذ الثورة التونسية. يحدث هذا لأول مرة في تاريخ تونس، بل في تاريخ الشعوب العربية. المواطن التونسي أصبحت له إمكانية الوصول إلى الحكم على غرار بعض المهن الأخرى في وقت سابق كالطب و الهندسة و غيرهما و ذلك مهما كانت الجهة التي ولد و نشأ فيها. السؤال المطروح: لماذا يرفض المواطن التونسي حقه في المشاركة في تقرير مصيره و إدارة شؤونه؟ لماذا في كل مرة يفوض أمره كله لشخص واحد؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال المحوري لبد من لمحة عن هذا الجزء من الشعب المساند لعودة الإستبداد و ذلك من خلال ما نلحظه و نسمعه من المحيطين بنا في الواقع و كذلك في العالم الإفتراضي و من خلال وسائل الإعلام. هؤلاء لا ينبثقون عن طبقة اجتماعية معينة، بل يأتون من طبقات مختلفة. لا يشتركون في الفقر والدليل على ذلك نجد الفقراء ماديا و فاقدي أبسط سبل العيش الكريم و نجد كذلك من بينهم وسائل إعلام على ملك أثرياء.
هؤلاء لا يتقاسمون نفس الأهداف و الغايات فالمهمشون يرغبون في لقمة عيش والأثرياء يريدون مزيدا من الثراء.
رغم اختلاف منزلتهم الإجتماعية و عدم تقاطع غاياتهم فهم يلتقون حول مشروع قيس_سعيد. هذا المشروع الذي بناه منذ اعتلائه الرئاسة على عبارات حمالة لعدة أوجه و تأويلات من قبيل "هم خانوا الأمانة"، "أعلم خفاياهم و ما يخططون له" و "هم الذين جوعوا التونسيين و سرقوا أموال تونس"، هم، هم... و كأنها قضية رفعت ضد مجهول.
هذا المشروع الذي انطلق ببساطة باتهام الجميع و سحل الكل و الإستأثار بالتفسير و التدبير والتقرير. هذا المشروع الذي بدأ بعد رفض الحوار والتحوير. هذا المشروع الذي كل همه صورة القائد وإظهار صاحبه كصانع التغيير. هذا المشروع الذي يلغي كل واسطة من أحزاب و هيئات و إعلام فتخرج علينا أوامره من أول الليل حتى وقت السحور.
هذا مشروع قائدنا يمثلنا مع نظرائه، يقوم بديلا لعلماء الإجتماع و رجال الدين. يخطب فينا ويخاطب شركاؤنا في الإقتصاد ومجالس الأمن فقائدنا يفقه في كل الأمور. لم يأتي هذا المشروع من فراغ و لم يرى النور بين عشية و ضحاها بل كان ثمرة جهد إعلامي كبير و ممنهج همه الوحيد طمس معالم الثورة.
يكفي أن نتذكر كم من مرة سمعنا "المؤسسات الدستورية أصبحت دولة داخل الدولة"، "جامعة كرة القدم دولة داخل الدولة"، "البرلمان فوضى"، "هيئة الحقيقة والكرامة يسمونها هيئة بن سدرين"، "هيئة مكافحة الفساد اطلقوا عليها صفة وكر فساد و تبتز في الفاسدين و ترقد في الملفات"، "القضاء اصبح اسمه قضاء البحيري وليس القضاء التونسي"، "الأمن اصبح أمن موازي و الحديث عن الجهاز السري لحركة النهضة"، "الرؤساء الثلاث بدل الحديث عن السلطتين التنفيذية والتشريعية".
كلّها عبارات تبعث عن الشؤم والريبة وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة الواحدة و تخلق في اللاوعي العام حالة من التيه واليأس في حين أنها تجربة ناشئة تحتاج إلى وقت وإلى تراكمات فكرية و منهجيات مختلفة لكي تتحسن و تتطور شيئًا فشيئًا. من جهة أخرى لم يدّخر الجسم النقابي أيّ جهد من خلال ارتفاع سقف المطالب والقيام بإضرابات عشوائية مما أدّى إلى تفاقم الوضع الإقتصادي .
في المقابل لم يكن لدى الطبقة السياسية الفاعلة النضج اللازم و لا الشجاعة والجرأة في اتخاذ القرارات ولا حتى أفكار بناءة لتحديد استراتيجيا واضحة المعالم. ساهم كلّ ذلك في خلق نوع من اليأس والإحباط لدى الناس من كلّ ما له علاقة بالمشهد السياسي الجديد ولم يعد يأمل منه خيرا.
كل هاته العوامل اشترك فيها الفاعلون والمفعول بهم. الفاعلون من إعلام و دولة عميقة و نقابات و طبقة سياسية ساهموا بشكل كبير في تنفير الناس (المفعول بهم) من هذه التجربة الديمقراطية فصار الأخيرون يبحثون عن مخلِّص لهم من الوضع الحالي حتى وإن كان ذلك على حساب مكتسباتهم كالحرية والكرامة والحق في المشاركة في تقرير المصير و إدارة شؤونهم والمساهمة في بناء الوطن. هكذا يلتقي طرفين متناقضين: طرف لا يقبل أن يشاركه غيره في البناء و اقتسام الثروة سلّط كلّ جهده و طاقاته وإمكاناته في دفع الطرف الثاني للتخلّي عن حقه في أن يكون دور فاعل في بناء وطنه.