"أنا لا أخاف القانون ولكني أخاف المحكمة"، عبارة "الكسندر سُلجنستين" عملاق الأدب الروسي، وسجين "الغُولاق" والشّيوعية. في دولة فيها قضاء مستقلّ عليك ان تعرف محاميا يعرف القانون، وفي دولة فيها قضاء " التّلفون" عليك ان تعرف محاميا يعرف القاضي، و شرّ الملوك من خافه البريء.فالقضاء هو الملجأ الاخير من العسف حين يجور عليك الزمان،و هو الحماية القانونيّة للأفراد ولا يعرف قيمة جَوره الا من وقف مظلوما فوجد نفسه مغلوبا لم يجد من ينتَصِف له، وفرق بين الجمر والتّمر.
لا يوجد في اية دولة تخلّفت او تقدّمت رئيسا يأمر القضاة بما يفعلون. و حين تُدرّس الدّولة الأجيال كتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، مرجع الحداثة السياسية حول فصل السلطات، وحين تساند نُخب مَسخها رئيسا يجمع السلطات بيمينه، عليها ان تعرف انه لا علاقة لها بالحداثة بل بالتخلف مهما تسربَلت بالاقنعة.فما هي السلطات الثلاث اذا كان القضاء وظيفة وليس سلطة؟"في أحد افلامه، رافع الفنّان "عادل امام" عن منوّبه، وبدأَ القاضي المرتشي يتلو حُكمه :" ....واعتمادا على الفصل كذا..من قانون". فقاطعه "عادل امام" ساخرا و :"من قانون ساكسُونيا. حُكم ايه دا يا جَناب القاضي !!". فحشَره مع مُنوّبه إلى سجن "أبو زعبل".
قانون ولاية "ساكسونيا" الالمانية في القرن 15، أشهر تعبيرات الظُلم العَمْد وتشريعات قانون الغاب. بسببه يُحاكم الفقير وتصل عقوبته للإعدام، في وقت تقتصر فيه عقوبة "النبيل" على محاكمة ظلّه. حين قام المُشرّعون من النُبلاء بوضع قانون خاص . فان كنتَ من أغمار الناس، تُحزّ رقبتك أمام الجميع،بينما لا يَهوى السّيف الا على ظلّ رقبة الجاني الجارِم من الأثرياء.
كبيرة السلطة تزوير ارادة الناس، وكبيرة السياسة، في عرف التخلف، هي معارضة الحكم. وجوهر اخفاق دولة العلمنة العربية كامن في عدم وجود دولة قانون. بعد الشرك بالله اعتبرت شهادة الزور الكبيرة الثانية في كتاب "الكبائر" للإمام الذَّهبي، لانها تقوّض العدل.. سرقت المرأة المخزومية فسعى أهلها إلى التوسّط للنبي ب"أسامة بن زيد" ،حبيب الرسول، ولكنه غضب وقال: "أتشفع في حدّ من حدود الله إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله:" لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يَدها".
كل كارثة العرب في غياب دولة القانون ولا شيئ سواها. لا يملك الرئيس مقومات مقاومة العَيث والفساد، لا غاية له سوى حماية انصاره وعشيرته الاقربين والبطش بخصومه، بدليل عفوه على كل من نهبوا المحلات التجارية نكاية في حكومة المشيشي. فالولاء قبل الكفاءة هو عين الظّلم والفساد قبل ظلم القضاء. فليس العادل من يفتح العاصمة لأنصاره للتظاهر ويجعلها "غوانتنامو" لمعارضيه، ، أو يعيّن وزراء لهم شبهات الفساد. و ينقد القضاء الفاسد و يصمت عن البوليس "الصّالح" الذي لا ينفّذ القوانين و"لا ينفع تكلّم بحقّ لا نَفاذ له".
ليس "المجلس الاعلى للقضاء" معصوما، وعلى القضاء اصلاح نفسه ، فلا زال الناس يَرَون أقضيتَه على صَغائر الفقراء، وعَفوه عن جَرائر الأثرياء.وهذه ثَلمة لا تليق بزمن حرّ. وليس الحلّ في بسط النفوذ عليه كما كان "بن علي" يعزَّ من يشاء من القضاة ويذلّ منهم من يشاء. لم يخلق الله الانسان ليعوّل على عدالة السّماء فبإمكانه فرض العدل في الارض بالوقوف الى الحق ايّا كان قائله، "حتى لا يطمعَ شريف في حيفك ولا ييأَس ضعيف من عدلك"، هكذا قال عُمر بن الخطاب الحقيقي حين أوصى عامِله "ابا موسى الاشعري"، ولأجل هذا حضرنا، حتّى لا يُظلَم ابن كما ظُلم أبوه من قَبل.