يوم 21-04-2022، ختم الرئيس قيس سعيّد مرسومه عدد 22 لسنة 2022 المتعلق بتنقيح “بعض أحكام القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات” ووجّهه إلى الجريدة الرسمية التي نشرتْه في اليوم الموالي ليكون من حينها نافذا كما اقتضت ذلك أحكامه. ولم يرَ الرئيس الذي يفاخر دوما بعزمه إرساء ديموقراطية مباشرة أيّ حاجة لعرض نصه قبل اعتماده على الاستشارة العامة، منتهجا نهج التفرّد في القرار الذي دأب عليه منذ 25 جويلية. كما بدا غير مهتمّ بتحجير الدستور في الفصل 70 منه استعمال المراسيم في مجال التشريع الانتخابي ولا بما سبق من تعبير مجتمعي وخارجي[1] عن رفض المسّ بالقواعد الضامنة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها وبالتالي بما قد يكون من مواقف تدين خطوته. ويؤشر هذا على الأهمية السياسية لخطوته تلك في مشروعه السياسي المستقبلي والتي تزيح هيئة انتخابات “مستقلة” لتفرض هيئة يختار أعضاءها على هواه.
هيئة يرسمها الرئيس ويحكمها عن بعد:
قبل نسفها، تعمّد الرئيس قيس سعيد ترذيل هيئة الانتخابات بتوجيه التهم لها بعدم الحياد والفساد. وقد تجاهل في ذلك أنّها ضمنت نزاهة الانتخابات التي أوصلته لسدّة الحكم وأن تاريخها لم يتضمن أي اتهام لها بالتدليس أو التلاعب بأصوات الناخبين. وكان فيما يبدو يعتزم في مرحلة سابقة إنشاء هيئة جديدة بقانون انتخابي جديد. ولكن ما لاحظه من تمسك خارجيّ خصوصا بالمكسب الديموقراطي للهيئة القائمة اضطرّه للمناورة وذلك بالمحافظة عليها مقابل تغيير تركيبتها. وعليه، باتت الهيئة مكوّنة من سبعة أعضاء يعيّنهم كلهم وله حقّ التدخّل في إدارة أمرهم، علاوة على أنّه يملك سلطة تنحيتهم.
الرئيس وحده من يعيّن أعضاء الهيئة ورئيسها
أسند المرسوم لصاحبه صلاحية تعيين:
ثلاثة أعضاء يكونون من الأعضاء السابقين لهيئة الانتخابات القائمة. وهنا لا نتوقع منه ان يختار من جاهروا برفض إجراءاته وفي طليعتهم رئيس الهيئة الحالي نبيل بافون الذي جاهر بمعارضته لإجراءات 25 جويلية لتعارضها مع الدستور واعتبر تدخل الرئيس في هيئة الانتخابات فعلا غير شرعي و يمهد لتدليس إرادة الناخبين. وينتظر منه في المقابل أن يتخيّر من استشعر فيهم الانسجام معه.
ثلاثة قضاة موزّعين إلى قاضٍ عدلي وقاضٍ إداري وقاضٍ مالي لجميعهم خبرة مهنية لا تقلّ عن عشر سنوات ينتقيهم من 3 قوائم ترشحات كل واحدة تضم ثلاثة أسماء تقدمها له المجالس العليا للقضاء كل حسب اختصاصه. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم أن الرئيس هو الذي شكّل مجالس القضاء واختار أعضاءها، فإنه لم يضعْ ثقة كاملة فيها واكتفى بها كجهة اقتراح تساعده في الاختيار. ويؤشّر هذا الأمر على حرصه التفرّد بالحكم في كل تفاصيله وعلى ضعف ثقته بكلّ المؤسسات بما فيها تلك التي يرسمها هو وفق رغباته. كما يلحظ أنه رغم تشكيكه الدائم في نزاهة القضاء وكفاءته، فإنّه اختار أن تكون أغلبية أعضاء هيئته في تركيبتها الجديدة من القضاة. وهو أمرٌ يستشفّ منه أن ترذيله للقضاء كان لغاية الاستحواذ عليه ولم يكن مؤسّسًا على أسباب موضوعية. لا بل أمكن القول بأنه عمد في مرسومه إلى استعمال الثقة العامة في القضاء للإيحاء بأنّ هيمنة القضاة عدديا على هيئة الانتخابات يكفي لوصفها بالمستقلة ولإبرائها من تهمة الفساد السياسي.
مهندس مختص في مجال المنظومات والسلامة المعلوماتية له أقدمية عمل فعلي عشر سنوات يختاره من قائمة ترشحات تضم ثلاثة أسماء يقدمها له المركز الوطني للإعلامية. وهذا المركز يعدّ قانونا مؤسسة عمومية غير إدارية تخضع لإشراف وزارة تكنولوجيا الاتصالات، يديرها مدير عام (لا تتوفر فيه شروط الاستقلالية) سيكون الجهة التي ستتولى الاضطلاع بالمهمة[2].
ولإدراك أهمية التغيير الحاصل على مستوى آلية تعيين أعضاء هيئة الانتخابات، يجدر التذكير بأنّ هيئة الانتخابات المستقلة كانت تضمّ في عضويتها تسعة أعضاء من خلفيات مهنية مختلفة يترشحون تلقائيا لذلك أمام المجلس النيابي الذي تتولى لجنة منه تقييمهم وترتيبهم حسب جدول كفاءة يحال للجلسة العامة له التي تنتخبهم بأغلبية الثلثين. وهنا كان التراجع لجهة تنوع أعضاء الهيئة في تكوينهم وكفاءاتهم المهنية الأصلية كما في ديموقراطية اختيارهم والتي تمثل ضمانة أساسية لاستقلاليتهم وهو ما عصف به الرئيس.
علاوة على ذلك، أسند الفصل 6 من المرسوم للرئيس صلاحية تعيين رئيس الهيئة من بين الأعضاء الثلاثة من قدماء الهيئة السابقة. وترك للمعين سلطة تعيين نائب له وناطق رسمي باسمها. ويؤول هذا التدخل في توزيع الخطط إلى إضعاف مجلس الهيئة في مواجهة شخص رئيسها. وربما ينسجم هذا إلى حد بعيد مع النظام الذي يرسمه سعيّد في كل نصوصه ملامحه. ولكنه يقايض بحديث امتيازات وحصانات غير مسبوق وجب التوقف عنده.
امتيازات رئيس وأعضاء الهيئة
منح الرئيس لرئيس الهيئة أجرة وامتيازات وزير ووعد أعضاءها بامتيازات وأجور يضبطها لهم بأمر يصدر عنه. كما وعد بذات الأمر أعضاء الفروع الجهوية التي يتم إحداثها. ويلحظ هنا أن مثل تلك الامتيازات وربما أقلّ منها قيمة مالية كانت مدخل الرئيس سعيد لترذيل المجلس الأعلى للقضاء ولاتهام أعضائه بالفساد وللتدخل تاليا بمرسوم لسحبها منهم بما يؤشر على أنه لا يجد حرجا في توظيفها منحا أو حرمانا تحقيقا لغاياته.
الحصانة
كان الفصل 14 من قانون الهيئة ينص أنّه “لا يمكن تتبّع أو إيقاف رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أو أحد أعضاء مجلسها من أجل أفعال تتعلّق بأعمالهم أو ممارسة مهامهم صلب الهيئة إلا بعد رفع الحصانة من قبل الجلسة العامة للمجلس التشريعي بالأغلبية المطلقة لأعضائه بطلب من العضو المعني أو من ثلثيْ أعضاء مجلسها أو من السلطة القضائية. ويتمّ النظر في رفع الحصانة على أساس الطلب المقدّم من السلطة القضائية مرفقا بملف القضية.”
بالمقابل، وضع المرسوم التعديلي الآتي: “لا يمكن تتبع أو إيقاف رئيس الهيئة العليا للانتخابات أو أحد أعضاء مجلسها من أجل أفعال تتعلق بأعمالهم وممارستهم لمهامهم. ولا ترفع الحصانة من قبل مجلس الهيئة إلا بأغلبية أعضائها ويكون ذلك بطلب من رئيس الهيئة أو من العضو المعني أو من أغلبية أعضاء مجلسها أو من الجهة القضائية”.
ويكشف التدقيق في النصّين أن التعديل أرسى مبدأ عدم مؤاخذة أعضاء الهيئة في كل ما تعلق بممارسة وظيفتهم في فقرته الأولى ومنحهم حصانة قضائية لم يحدد لها مجالا معينا في فقرته الثانية فيما كان الأول يسند لهم حصانة وظيفية قابلة للرفع.
ونقدّر هنا أحد أمرين:
إما أن نية الرئيس المشرع اتجهت للتمييز بين عدم المؤاخذة والحصانة وأنه كان يقصد أن يسند لأعضاء هيئته حصانة وظيفية فقط لكن سوء الصياغة اللغوية والتي تعود لغياب المداولة والحوار حول نص المرسوم أدت لغير ذلك،
وإما أنه يقصد فعلا تمتيع أعضاء الهيئة بالحصانة المطلقة في كلّ عمل يصدر عنهم أثناء مباشرتهم لوظيفتهم ومنحهم حصانة إضافية يمكن رفعها فيما قد ينسب لهم من جرائم خارجها.
وأيا كانت قراءة الهيئة والمحاكم مستقبلا لهذا الفصل غير الواضح، يلحظ أن إسناد أعضاء هيئة الانتخابات صلاحية النظر في رفع الحصانة عنهم من عدمها واشتراط أغلبية مدعمة في ذلك يؤول في حال اعتبرنا أنها وظيفية لامتناعهم عن ذلك كلما كانت المخالفة ممنهجة ومرتبة كما في حالة تدليس الانتخابات.
وعليه، يكون سعيّد الذي طالما هاجم الحصانات واعتبرها وسيلة حماية للفاسدين حرص على تمتيع أعضاء هيئته بها، ليكون وحده من يملك سلطة محاسبتهم باستعمال آلية الإعفاء.
للرئيس حق الإعفاء
في خطوة أشّرت إلى أنّ الرئيس لا يريد هيئة انتخابات مؤقتة وإنما هيئة دائمة سترافقه طوال فترة حكمه، ضبط مرسومه ولاية أعضاء هيئته بأربع سنوات غير قابلة للتجديد. إلا أنه ضمانا لسلطة دائمة عليهم، لم ينسَ أن يسند لنفسه صلاحية إعفاء أيّ منهم بناء على مقترح من رئيس الهيئة أو خمسة من أعضائها. ويلاحظ هنا أن صلاحية الإعفاء تلك حضرت كذلك بمجلسه المؤقت للقضاء بما يؤكد أنها من الأدوات الرئيسية التي يعوّل عليها في إدارة المؤسسات التي أنشأها أو حوّرها.
خلاصة:
يتبين من كل ما سبق أن تدخّل مراسيم الرئيس في تركيبة هيئة الانتخابات يؤدّي فعليا للمس بكل ضمانات استقلاليتها وتؤول لإرساء هيئة توصف شكليا بالمستقلة وإن كانت فعليا تحت حكمه المطلق، هيئة يسيرها عبر أعضاء يختارهم ويتحكم فيهم بأدوات بات يجيد استعمالها.
الهوامش
[1] بتاريخ 24-03-2022 ، وبمناسبة زيارتها لتونس تحولت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان عزرا زيا لمقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، أين وكما ورد بالبيان الذي صدر عن سفارة بلدها بتونس ” شددت على التزام الولايات المتحدة بإجراء انتخابات حرة ولنزيهة ودعم هذه المؤسسة الديمقراطية الرئيسية لأداء دورها المنصوص عليه دستوريا لإجراء الاستفتاء والانتخابات البرلمانية المقبلة.”
[2] المدير العام الحالي عينه الرئيس سعيد بتاريخ 25-12-2021 وكان من اول التعيينات التي باشرها في مثل خطته