صبيحة يوم 24 أغسطس 1992 لم يكن صباح يوم عادي من أيام الجمر والمنفى، منذ ثلاثين عاما بالضبط كنت في بيت متواضع في قرية (شفروز)، التي تقع في ضواحي باريس أنام مطمئن الضمير رغم عسر المنفى والابتعاد عن أرض الوطن الذي غادرته بمعجزة فراراً من قمع الاستبداد يوم 24 أغسطس أيضا من عام 1986 قبل أسبوع من فرار صديقي المرحوم محمد مزالي، الذي غادر البلاد خلسة عبر الحدود الجزائرية يوم 3 سبتمبر 1986 مستعينا بصديقنا الوفي العقيد رشيد عزوز، لم أكن أعلم أن زين العابدين بن علي (وهو الذي كان وزير الداخلية في حكومة مزالي... ثم تولى الوزارة الأولى وانقلب على الزعيم الخرف يوم 7 نوفمبر 1987) لم نكن نعلم أنه منذ أصبح رئيسا للجمهورية تحول إلى نمر من ورق بسبب تأثير شرير عليه من رجل داهية وميكيافيلي هو وزيره الأول منذ انقلابه وهو الهادي البكوش رحمه الله وغفر له حيث لم يتفطن زين العابدين أن للهادي البكوش مطامع أكبر من مجرد الوزارة الأولى إذ كان في أعماقه يضمر الشر لابن مسقط رأسه (حمام سوسة) وينوي بلوغ الرئاسة معتبرا أن زين العابدين جنرال عسكري وأمني تنقصه الخبرة السياسية وهو مجرد معبد للطريق ليحقق البكوش أطماعه في الرئاسة!.
لكن الذي وقع خيب مطامع البكوش وكما كنا نقول: "كان البكوش يتهيأ لأن يتعشى بالزين فتغدى به الزين..!" والبكوش هو الذي كان وراء طلب (استردادي) عبر منظمة إنتربول بأيدي من عينوه وزيرا للعدل عبد الرحيم الزواري.. وكذلك طلب استرداد محمد مزالي نفسه والذي اتصل به مدير مكتب الرئيس جاك شيراك السيد ميشال روسان وأعلمه بوصول demande d’extradition في حقه وحق القديدي.
أعود لأروي قصة ذلك اليوم العجيب حين رن جرس بيتي على الساعة السادسة والنصف وفتحت الباب لأجد أمامي محافظ الشرطة العدلية (لوجوندر) ومساعده يعلمانني بأنني في حالة إيقاف على ذمة السيد حاكم التحقيق السيد (دوجاردان) في محكمة فرساي لأنني مطلوب من منظمة إنتربول إستجابة لمطلب جلب من السلطات التونسية.
ولبست ثيابي بعد أن هاتفت رفيقي محمد مزالي وصديقي المحامي مجيد بودن ورفيق كفاحنا علي السعيدي (الذي اغتيل في تونس عام 2002 في ظروف غامضة)، وهو الذي يتمتع بشبكة علاقات واسعة وناجعة وانحنيت على ابني الصغير النائم في هدوء ملائكي وقبلته على جبينه (كان الطيب ابني في سن السادسة) وبدأت رحلة يوم عجيب أولها استجواب مع المخابرات في مخفر الشرطة عن كل ما يتعلق بالسياسة وهل حصلت على الجنسية الفرنسية (لأن الفرنسي لا يرحل) فأجبت بالنفي واقتادني رجلا الأمن إلى قاعة انتظار محكمة فرساي،
وكانت المفاجأة الكبرى لي شخصيا ولرجلي الأمن ولحاكم التحقيق حيث وجدنا المحكمة مليئة بحشد بشري سبقني إليها بعث في قلبي طمأنينة المؤمن بالله فقد احتضنني الوزير الأول السابق وحياني بحرارة الأخوة ووجدت في انتظاري أخي أحمد بنور كاتب الدولة للأمن الوطني والداخلية ثم الدفاع ورفاق كفاح أوفياء أخلصوا لكل القضايا الإنسانية أمثال مجيد بودن المحامي، والذي كان رئيس مجلس إدارة البنك الفرنسي التونسي ود. أحمد المناعي الخبير لدى الأمم المتحدة وصديقي اليساري منذر صفر، وهذان المناضلان تعرضا لمحاولات اغتيال من قبل بلطجية النظام النوفمبري ويحملان آثار الاعتداء بالعصي و لسكاكين.
والأغرب أني وجدت ثلة متميزة من رجال القانون والحقوق الفرنسيين مثل المحامي الشهير بدفاعه عن المضطهدين إلى يومنا هذا (الأستاذ وليام بوردون)، كما حضر صحفي من وكالة الأنباء الفرنسية (أذاعت الوكالة في برقية نبأ اعتقالي وإمكانية ترحيلي إلى تونس مكلبشا)، كما وجدت في انتظاري مبعوثا عن الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان ومبعوثا عن مؤسسة السيدة (دانيال ميتران) لحقوق الإنسان، وهي قرينة الرئيس ميتران وهو على رأس السلطة وطبعا عرفنا جميعا أن كل الفرنسيين جاءوا بسعي من المناضل (الشهيد اليوم) علي السعيدي، وتأكد حاكم التحقيق أن كل التهم كيدية وصنعها وزير العدل الزواري لإيقافي ولكن العامل الحاسم الذي غير مجرى (الترحيل) هو الاتصال الهاتفي الذي أجراه مجيد بودن بطلب مني مع صديقي الوزير (برنار ستازي) والذي بادر بالاتصال بزميله وزير العدل الفرنسي (ميشال فوزال)، الذي كان في إجازة وقام بالاتصال السريع بوكيل الجمهورية بمحكمة فرساي الذي كان أيضا في إجازة لكنه جاء بسرعة إلى مكتبه بالمحكمة ملبيا أمر وزيره واستقبلني وكيل الجمهورية مع مجيد بودن ليعلمني أنني حر.. وقلت له وللصحفي من وكالة الأنباء إنني أثق في العدالة الفرنسية سليلة احترام الحقوق والحريات.
وفي غمرة الفرح والتكبير شكرت كل من ساند رجلا مضطهدا وخرجت من المحكمة محفوفا بهذه القلوب المحبة للعدل والحرية ولفحتني على الساعة الخامسة وأنا أخرج للشارع نسمة عليلة قادمة من الغيب وقرأت في سري كعادتي كلما اجتاز محنة (سورة الضحى) و(سورة التين).. والحمد لله لأن عدل الله سبحانه وتعالى فوق ظلم البشر والله هو أحكم الحاكمين كما ختمت سورة التين.