لم يفتح الغنوشي عينيه على دنيا السياسة وهم التغيير السياسي بل الحضاري، من خلال التنظيم الاسلامي الذي انتمى إليه انتماء عاما (الاخوان)، ولا الذي أنشاه سنتين بعد عودته إلى تونس. لقد وفد على "عالم الاسلام" كشاب جاد ومهموم بمشكلات امته، من تجربة مريرة للتيار القومي، قاد الأمة لهزيمة نكراء.
تلك التجربة جعلته يتفاعل مع مشكلات التغيير، من خلال باب اوسع من مجرد العودة الروحية للاسلام، تلك التي عمت ربوع الأمة بأكملها، وإنما الانشغال بما هو اوسع... بالتغيير الحضاري.... بمشكلات الحضارة....بالجواب على سؤال شكيب أرسلان المشهور: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟
من ذلك الباب وجد نفسه بين أهم مفكرين إسلاميين في حقبة الخمسينات والستينات : مالك بن نبي و سيد قطب. كان الحوار غير المباشر الذي دار بينهما حول مفهوم الحضارة، نقطة الانطلاق في اهتماماته الباحثة عن البديل/الجواب عن سؤال أرسلان.لذلك وقبل ان تطأ قدماه أرض تونس كان حريصا على لقاء مالك بن نبي ... وقد حصل له ذلك.
يقول انه كان اميل لأطروحة بن نبي باعتبار ان الحضارة هي فعل الانسان وقدرته على استخلاص التركيب "الكيميائي" المناسب بين مواد الحضارة الثلاث : الانسان والزمن والتراب. لكنني ازعم انه لم يلفظ سيدا، وما كان له ان يلفظه. بل استطاع ان يركب لنفسه محلولا كيميائيا يناسب طبيعته الجادة الصارمة مع ذاتها والعملية الحريصة على الانجاز ثانيا . لقد وجد في بن نبي العقل الناقد الصارم ووجد في سيد شعلة النور الحريصة على إضاءة العتمة حتى وهي تحترق.
ورغم انطلاقة الكيان الحركي الذي انشاه وثلة من تلامذته وزملائهم الشباب، بكل العفوية والتقليد على النماذج الحركية السائدة وقتئذ، إلا انه واصل انشغالاته الفكرية العميقة، وتركيز اهتمامه ب"مشكلات الحضارة". تستطيع ان تتلمس ذلك في كتاباته الاولى في مجلة المعرفة، وفي الكتب التي تشرها ومنها ذلك الذي نشره مع المثقف الناقد مصطفى النيفر أخ رفيقه احميدة النيفر : "نحن والغرب" .
إن "الجمع" بين "بن نبي" و"سيد" في شخصية جادة ومثابرة هو الذي اثمر "المشروع الراشدي". وبقدر ما كان الحرص على العمل والانجاز سمة من سمات شخصيته، بقدر ما كان استعداده كبيرا إلى توجيه اتجاه سفينته نحو المسارات التي ينفعل بها كيانه خاصة إذا غالبتها الانواء.
وعدا عن لحظة سلفية عابرة، واخرى عند "القرب" من التنظيم الاسلامي الأم في العالم العربي، وجد الغنوشي نفسه في قلب همومه ومشكلاته التغييرية، من خلال تطورات فصيل الحركة الطلابي، والخلاف الذي أنطلق مع احميدة ومجموعته . حيث كانا في قلب اهتماماته. وتكشف درجة تفاعله معهما عن عمق نظرته، واستعداده لتجاوز ارتداداتهما الظاهرة الى أعماق استجاباتهما لتحديات مشكلات التغيير الحضارية.
في الفضاء الطلابي طرحت إشكالية الحرية والتعددية والاعتراف بالآخر من خلال ما عاناه الطبية الاسلاميون من عنف وإقصاء من خصومهم الماركسيين. ومع احميدة ومجموعته طرحت إشكالية الحرية والتعددية والاعتراف بالآخر داخل الصف الاسلامي، الى جانب تجديد القراءة والموقف من التاريخ الاسلامي والتجارب الاسلامية القائمة وعلى رأسها التجربة الاخوانية. الواقعتان نقلتا بسرعة الكيان الحركي من المثالية والوثوقية السلفية الاخوانية الى عالم الواقع وعالم التغيير وعالم التجديد، مضافا إليهما تأثير التحولات الاجتماعية والسياسية في الواقع التونسي.
وبقدر ما ساعده الفضاء الطلابي بطبيعته على تخطي معوقات التصنيف العقائدي التقليدي، ووضع المسألة السياسية في قلب الاهتمام، بل وجعلها بوصلة التغيير، وشعار المشروع من خلال رفع شعار : "نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في البلاد" و بشحنة تنظيمية حركية مثلتها خطة الفصيل الطلابي لتلك السنة الجامعية 76/77 والتي كان شعارها : "فرض الحرية في الجامعة"، بقدر ما كان "الاشتباك" الداخلي عسيرا ومضنيا، بحكم هيمنة الجهاز التنظيمي، وتشبعه بالمفاهيم الصفوية العقائدية، التي لا تؤمن بالاختلاف وتضيق بالتعدد. في تلك الأجواء قاوم الغنوشي المناخ بما يتيحه له موقعه كأمير ، من خلال ممارسة سلطته ما أمكن له، بالابتعاد عن سياسة "البتر" التي كانت شائعة ويحرض عليها، وحاول استعمال صداقاته لراب الصدع، وكتب "من اجل تعايش سلمي العاملين للاسلام". واثمرت جهوده بالمقارنة خفضا لحدة الصراع، بل واستثمر ذلك في تطوير الوعي الحركي والفكري، للتخلص تدريجيا من اسر السلفية الاخوانية على مستوى الفكر والممارسة، واستطاع ان يقدم الافكار التي كان يقدمها احميدة وصحبه، وتلقى رد الفعل السلبي، بطريقة أقل حدة وايلغ تأثيرا. برز ذلك خاصة عند ترأسه لتحرير مجلة المعرفة في سنتها الخامسة .
وبقدر ما تبنى الغنوشي الخيار السياسي في التغيير، والاعتماد على السياسة كمدخل في التغيير الحضاري، إلا انه بناها مبكرا على قاعدتي الحرية والتعايش والبحث عن المشترك.
من هذا الباب، وكحقيقة تاريخية لا تقبل الجدل والمراء، فإن الغنوشي وحركته هو من بدآ بالاتصال بالفرقاء السياسيين، ونسج علاقات تبادل الافكار والبحث عن المشترك، وسعى الى تطوير برامج عمل، بدأت محتشمة قبل 81 ولكنها تطورت بعد ذلك.
وكحقيقة تاريخية أيضا، فإن الإسلاميين في الجامعة هم من فتح باب حرية التعبير للجميع دون إقصاء عدا طلبة الحزب الحاكم. ولقد شهدت بنفسي كيف كان طلبة الحزب الشيوعي يحرمون من الكلمة ويعنفون من متطرفي اليسار، وكيف ان هؤلاء الاخيرين والقوميين وحتى من له اتجاه طلابي ليس فيه من الأعضاء إلا هو وعشيقته، يمكنون من الكلمة في تجمعات الإسلاميين، ليلقوا خطابات مطولة كلها سب للإسلاميين ودعوة لاستئصالهم !
انفعل الغنوشي بالثورة الايرانية كما لم ينفعل بها أي زعيم إسلامي آخر، ودافع عنها دفاعا مستميتا، ولكنه لم يغير نهجه السياسي القائم على الحرية والتعدد. وكان يمكن ان ينتهج سنة 81 الخيار الثوري الايراني، ولكنه آثر ما اعتبره الترابي خيارا ثوريا أيضا، قائما على النضال من اجل الحرية بوسائل غير ما تعتمده الثورات من ميل لسفك الدماء وممارسة الاقصاء .
كانت ندوة الإعلان عن حركة الاتجاه الاسلامي، وحوار مجلة المجتمع الكويتية، فاتحة التأسيس النظري والعملي للحرية والديمقراطية، وإن سبقتها نصوص كثيرة هامة جمع اغلبها في كتاب "مقالات".
كان الغنوشي يخوض صراعا مزدوجا، داخليا مع تنظيم منقسم، بين إخوانية محافظة أقرب للسلفية، وثورية جامحة مؤسسة على الهدم والقطيعة، وخارجيا لمواجهة الأفهام المتكلسة والمشوهة للإسلام وموقعه في الحياة، والروح الاقصائية له ولدعاته في مسرح الحياة ولا سيما في السياسة.
كانت مدرسة يوسف، خلف اسوار برج الرومي، فرصة التأمل العميق، وتركيب النموذج الراشدي في الجمع بين ما يتصور انها نقائض، مؤسسا للحرية والديمقراطية. وقد سمحت ظروف السجن آنذاك، بأن يساهم في الحوار الفكري والسياسي، من خلال نصوص كثيرة، تسربت وطبعت مقالات في الصحف في شكل بيانات ونصوص باسم الحركة، وكتبا بأسماء مستعارة، ورسائل ونصوص وتوجيهات واقتراحات وتقييمات للتنظيم، كلها كانت متمحورة حول التأسيس والاقناع والتمكين لفكرة الحرية والديمقراطية والتعدد وحق الاختلاف والتنازل عند المشترك.
واستمر على نفس النهج حتى مواجهة 87 وسقوط بورقيبة وما بعده وفي المهجر وما بعد الثورة.
ما كتبه الغنوشي، وما صرح به، وما مارسه من مواقع متقدمة، وفي اضيق لحظات الصراع والاستهداف، يقوم دليلا لا يتزعزع عن إيمان عميق بتلك القيم، وتمسك ثابت بها لا يرقى إليه شك. وفي هذا الإطار أستطيع ان أقول أن كل لحظات الارتباك التي أصابت حركته، وجعلت الامور تنفلت منها احيانا، كلها كانت في غيبة الغنوشي عن القيادة المباشرة والفعلية للحركة.
وكل ما يمكن ان ينسب للغنوشي من جنوح في القول أو الممارسة، لا يمكن ان يكون إلا من باب الاستثناء إن صحت نسبته ٱليه.
ورغم ان الغنوشي زعيم سياسي يؤمن بالتكتيك، ويمارس ما تقتضيه السياسة من ازدواجية احيانا، إلا ان ذلك لم يكن على حساب إيمانه بالحرية والديمقراطية . وقد تسمح له نفسه احيانا بأن "يفتي لنفسه"، لكنه يفعل كل ذلك باسم الضرورة التي تقدر بقدرها، وباسم الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة.
يتبنى الغنوشي مفهوما للديمقراطية الداخلية كان مثار نقد من الكثيرين ومنهم كاتب هذه السطور، لكنه للحقيقة لم ينفرد به. وهو خيار له مبرراته خاصة في الاحزاب والحركات، ولا سيما التي اضطرت الى انتهاج السرية، وهو موجود حتى في الاحزاب العريقة الغربية، ولم تنقطع ممارسته إلا حين ترهلت الظاهرة الحزبية حتى في الغرب نفسه.
ورغم ان الغنوشي بشر كغيره قد لا يسلم من نزعة "حب الملك"، إلا أنني أقدر ان بواعثه في موقفه لا تقف عند ذاك. وقد قال مرة لأحد مخاطبيه ان هذه المواقع تنتزع ولا توهب، وعلى من يأنس في نفسه القدرة ان يعمل لذلك . وهو بالتأكيد لا يقصد اغتصاب الموقع، وإنما توفير شروط امتلاكه. فعلى من يريد أخذ موقعه ان يملك ما ملك، وان يوفر ما وفره. وهنا يحق له ان ينظر للموضوع باعتباره أمانة بين يديه، قد يريحه التخلص منها، وقد حدثته نفسه بذلك كثيرا، ولكنه يتراجع ويحمل العبء، ويقبل حتى بصور كاريكاتورية للتنافس.
الحقيقة ان الغنوشي لم ينافس بأوزان تقابله، وان حركته بقدر ما انتجت قيادات فاعلة، إلا أنها فاعلة فقط عندما تكون في مجموعات، اي حين تجمعها مؤسسات الحركة. ولكنها لم تصل إلى ما وصل ٱليه هو من استجماع عناصر الرمزية والقيادة. وإذ لا اشك ان له نصيبا في ذلك إلا انني لا اقبل ان احمله الوزر كله.
من هذا الباب اتفهم ما حصل في المؤتمر العاشر. وقد كتبت في هذا الموضوع نصوصا كثيرة اهمها " من جديد بين الشيخ ونخبته ".
كل متابع لمسيرة الغنوشي يدرك انه "لم يملك ما ملك" لنزعة سلطوية، ولا لافتئات على القيادة، بل لجهد مثابر استثنائي في الفكر والعمل وفي القيادة والتأثير ... جلد وصبر ومصابرة، وقدرة غير تقليدية على القراءة والتأمل والاستماع والحوار والتقاط الافكار وبناء الجمل السياسية، ونسج العلاقات، وتحمل الصدمات، والشجاعة في فرض الإحترام وانتزاغ التقدير.
وإياك ان تتصور ان الغرب الذي يكن الكثير من رموزه المعتبرة ومؤسساته للغنوشي احتراما، قد انطلت عليهم حيله، وغابت عنهم اسراره، وانسحقوا امام مواعظه ... أنا على يقين من انهم عرضوه على ماسحات ضوئية دقيقة، نفسية وحركية وسياسية وثقافية واجتماعية كي يمنحوه ذلك .... تماما كما أولائك الذين يحذرون منه، ويؤلبون عليه، ويتآمرون بالليل والنهار ... أولائك الذين تأكدوا من وضوح خطه، وعمق إيمانه بالحرية والديمقراطية، تلك التي لا يؤمنون بحقنا فيها ... أولائك وأذنابهم بين ظهرانينا، متأكدون من الغنوشي ومكامن قوته ... لذلك يتملكهم ذلك السعار، وتبعث فيهم كل ممكنات التشفي والثأر ولو على حساب الوطن والمواطن…
مر الغنوشي وحركته بأحداث متعددة، كان يمكن ان تجعلهم ينتهجون خيارا غير خيار الديمقراطية والبناء على اسس العيش المشترك ومحاربة الاقصاء. لكنهم لم يفعلوا رغم فضاعة ما حل بهم، وما تغري به خيارات التطرف من رغبة في الانتقام، وما تولده حرب تجفيف المنابع ومسالخ التعذيب والقتل من يأس وقنوط. لا زلت أذكر انه قبيل انتصاب المحكمة العسكري سنة 92، وعلى انباء قوافل الشهداء في مسالخ الداخلية، دعا في جريدة الشعب المصرية الحكم للحوار وقال : "هذه أيدينا نمدها وهذه جراحنا نكلؤها".
أعيد واكرر .... للغنوشي أخطاء كثيرة، وفي سيرته ما يمكن لك ان تستدركه كما يستدرك على كل زعيم وقائد ومفكر ... لكن يبقى جوهر المشروع الراشدي ثابت البنيان سليما لا تشوه حقيقته ولا صورته استثناءات في القول والممارسة .... مشروع قاعدته الحرية للجميع والكفر بالإقصاء، واداته الديمقراطية والتوافق والعيش المشترك ... ذلك هو الثابت في مشروعه الذي لم تزده الايام إلا ثباتا، والذي عليه استقبل السجن وهو ابن الثمانين، كما استقبله من قبل وهو ابن الثلاثين .
وذلك ما سيبقى ويخلد من سيرته جهاده …