استمعت البارحة لطرح الأستاذة إيناس حراث في الندوة الحوارية التي يديرها الصديق بكار عزوز، الذي أحييه على جهوده وجهاده في مقاومة الانقلاب، وعلى انفتاحه على طول جبهة المقاومة. من يتابع صفحة إيناس حراث، سيجد نفسه امام نفس الافكار التي كانت تعبر عنها بطريقة أو اخرى ... ربما يكون الجديد هو التركيز والاجابة على جوهر الموضوع، من خلال الإجابة على الاسئلة المحورية التالية: مالذي اوصلنا الى الانقلاب؟ وماذا فعلنا منذ سنة وعشرة أشهر من عمره؟ وما هي شروط المقاومة الناجعة؟
للإجابة على السؤال الأول، ترى أن جوهر الموضوع، هو مواجهة سردية تم تبنيها من طرف أغلب النخب السياسية التي تدعي التقدمية والحداثة، سواء داخل أجهزة الدولة أو خارجها، والتي ترى في الاسلاميين "نبتا شاذا في غير أرضه"، وان التعامل معه لا يكون إلا بالاستثناء الذي يصل حدى الاقصاء بل حد الاستئصال، وان أقل حالاته قبولا عند بعض المتسامحين، ان يكون مادة حقوقية للاستتفادة من العمل على ملفات مساجينه ومنتهكي الحقوق منهم، تقدم به صورة عن تونس "الديمقراطية" و"المناضلة" يستدر بها رضا أو عطف أو مال الجهات الغربية.
وفي هذا السياق فإن الديمقراطية ذاتها تصبح إما مطلبا مؤجلا ما دامت لا تأتي إلا بهم كاغلبية، أو منقلبا عليها، أو متحيلا على مخرجاتها. وهو الخيار الذي لجات إليه تلك القوى لما قدرت ان أي انتخابات مستقبلية ستأتي بهم، فاعتمدت في الهيئة طويلة الاسم اكثر نظام انتخابي يمكن ان يضعف نتائجها، حتى لا يكون الفائز قادرا على الحكم بصلاحيات واسعة تتيح له تحمل مسؤولية الحكم.
ورغم محاولات اختراق هذه السردية منذ دخل الاسلاميون السياسة، ولا سيما في لحظة 18 اكتوبر، ثم مع حكومة الترويكا، ثم مع خيار "توافق الشيخين". إلا ان السردية بقيت صامدة، لم تغيرها السنين والتجارب والمحاولات. وإذا الأمر لا يكاد يختلف منذ إنقلاب بن علي على بيانه ذات 7 نوفمبر، إلى إنقلاب قيس على قسمه والدستور ذات 25 جويلية، إلى هذه اللحظة الفاضحة الكاشفة المزرية التي وصل إليها الانقلاب وتفاعل النخب معه والبلد بأجمعه بعد حوالي سنتين من عمره.
هنا مربط الفرس عند إيناس حراث. وكل قفز أو تجاهل لهذه السردية والعمل على مقاومتها، لن يجعلنا نتقدم في اتجاه التحرر من الانقلاب. وأقصى ما سنصل إليه أننا سنعوض انقلابا بانقلاب آخر مكشوف "خشن" أو خفي ناعم.
من هذه الزاوية أضم صوتي إلى صوت إناس، واتفق معها تماما في ان النظر الى الصراع مع الانقلاب، لم يوصلنا إلى أرضية تحرر حقيقية، تنقل التونسي من "مادة مراهنة سياسوية إقصائية استئصالية" إلى مواطن بدون تمييز أو وصم أو استثناء فردا كان أو مجموعة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.
رفعت النهضة منذ سنة 1995 وجراحها الغائرة لا زالت تنزف شعار " المصالحة الوطنية الشاملة التي لا تستثني أي طرف ثقافية او اجتماعي أو سياسي"، ولكن الخطوات التي قطعت والتنازلات التي قدمت لم تزحزح أصحاب سردية الاستثناء إلا شبرا وفي تردد.
هنا يجب ان يدور حوار تحليلي عميق، يحتاج من الصبر والمكاشفة والمعاناة، ما يمكن ان يصلح قاعدة لمقاومة كل ترسبات ومراكمات العقل الاستثائي الاقصائي، وهي أهم ولا شك من مقاومة سياسية سطحية، قد تاتي ب"نصر" ما هو إلا " كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء".
عامان على الانقلاب... هل أننا قاومناه ؟
بعد الحديث عن سردية المانوية والاقصاء والاستئصال، تحدثت عن الموقف من مواجهة الانقلاب التي اعتمدتها القوى المنسوبة على خط الثورة.
ويمكن تلخيص رأيها في أننا لم نقاوم الانقلاب كما تجب المقاومة. وان قوى الثورة اظهرت من التشرذم والتذبذب والارتباك ما يجعلها أبعد ما تكون عن المقاومة التي تقتضي الوضوح والحسم والتصميم.
كلنا يعلم أن 25 جويلية جاء وقوى الثورة "جسم منهوك ووجه دام". اثخنت فيه قوى الثورة المضادة وعلى راسها الإعلام، حتى شوهت ملامحها فضلا عن بهائها. لا بل إنها لم تكتف بتشويه ظاهرها (صورتها) بل استطاعت ان تشق صفوفها، وتبعثر وحدتها، واهم من ذلك ان تزعزع "يقينياتها". وقد تجلى ذلك في الموقف من الانقلاب، الذي افترقت فيه قوى الثورة على شُعب كثيرة، من الانقلاب الذي يجب ان يقاوَم، إلى التأويل الفاسد للدستور الذي يجب ان يعارَض، إلى تصحيح المسار الذي يجب أن يرافَق.
لم تفلح حتى " مواطنون ضد الانقلاب" في توحيد البوصلة رغم جهودها الكبيرة المقدرة، فضلا عن "جبهة الخلاص" التي تحولت إلى ما يشبه المعارضة تلتقليدية، والتي جرها الانقلاب سريعا إلى المعارضة الحقوقية، "تندد" و"تطالب" و"تلهث" بين مكاتب التحقيق والسجون و الوقفات الرمزية، و"تذهاب بساقيها الى المسالخ الاعلامية" للثورة المضادة.
بالأمس فقط، علق صديق على ما كتبت، انه لم يعد هناك معنى للحديث عن الانقلاب وعن المقاومة، فقد استقر الأمر للمتغلب وما علينا إلا مواجهة الوضع بأسلوب جديد ... وهكذا عدنا "للترهدين السياسي" تلك البضاعة التي لا يكاد السياسي التونسي يجيد غيرها.
هل ان الانقلاب يمكن ان ينال شرعيته بمجرد قدرته على فرض نفسه، وإرباك معارضيه، أو حتى سلب قدرتهم على المقاومة مؤقتا؟!
الحقيقة، انه بقدر ما كان الوضع ملائما للانقلاب في بدايته، ليفعل ما يريد، بما في ذلك السيناريو المصري الدموي على المباشر، إلا انه لم يكن يملك من الجرأة والوضوح والصرامة كي يذهب بعيدا بعيدا في ذلك رغم ان الشحن الاعلامي بلغ أوجه وحول الشعب الى "كومة قش يابسة" تنتظر عود ثقاب. ولولا ان قوى الثورة كانت في اضعف حالاتها، ما كان له ان يقطع كل خطواته، وبكل ذلك الارتباك والتذبذب والرثاثة، من الاستشارة الى الاستفتاء الى الانتخابات. ومع ذلك فقد كانت قوى الثورة اضعف منه حالا، ولم تستطع استثمار كل ذلك الضعف والارتباك والرثاثة والاخذ بزمام المبادرة وقلب المعادلة. لا بل إنه استطاع ان ينتقل بعد استكمال "رزنامته"، إلى الذهاب بقوى الثورة الى وضعية اكثر بؤسا، حولتهم من معارضين سياسيين للانقلاب، الى حقوقيين يطالبون بإصلاحات حقوقية ... وهم لا يشعرون!
الخلاصة ان الانقلاب امتد في فراغنا كقوى ثورة ... بل تسلل إلى عقولنا، وأثخن في أليافها العصبية المقاومة ... ولم يترك لنا إلا ما يفعله هو في نفسه، وما تفعله فيه شقوقه وعصاباته المتنافسة والمستثمرين فيه .... وما تفعله التجربة المريرة من "استبدال" قوى ترهلت وفقدت قدرتها على العطاء، لفسح المجال لقوى جديدة تتخلق من رحم الألم والمعاناة والفشل المزدوج للانقلاب ومدعي مقاومته.