انتهت الانتخابات التركية بفوز أردوغان وحزبه وتحالفه، بعد انتخابات شهدت استقطابا حادا بصورة اكبر مما كانت عليه في أي انتخابات قبلها … فاز أردوغان بالنسبة المتوقعة وبفارق 4% على منافسه ما يعادل حوالي مليوني وثلاث مائة صوت.
دخل أردوغان الانتخابات تواجهه ثلاث تحديات كبرى: الشباب والاقتصاد و بوادر الترهل والتسلط في إدارة الشأن الداخلي والعام للبلد. لكنه استطاع ان ينتزع من "شدق الافاعي" تلك وغيرها نصرا مؤزرا.
أثبت انه "لاعب" ماهر، يحسن إدارة الصراع، ويمتلك شجاعة خوض المعارك الدامية … معارك الربح بالنقاط .. معارك الديمقراطية في مجتمع مسيس حد النخاع … مجتمع يقدس صوته ولا يفرط في قيمته … مجتمع يعتبر عدم التصويت تصويت ضده … مجتمع كما اسلفت في تدوينات سابقة لا مثيل له في أي من الديمقراطيات التي نراها أو درسنا تاريخها …
شيئان بلا مثيل تميزت بهما التجربة الديمقراطية التركية: قدسية الصوت الانتخابي وقدسية الصندوق … لا يتخلف الشعب عن الادلاء بصوته، ولا يخون الصندوق من وضع فيه ثقته…. يمكن ان يقع الانقلاب على الديمقراطية كما حدث، ولكن دون المس من "حرية ونزاهة وشفافية" العملية الانتخابية إذا دعي الناخبون إليها.
شيئ لافت … يحتاج تأملا ودراسة ….
في ما عدا ذلك لا شيئ اختلف عن الديمقراطيات الاخرى … في وسائل الصراع ومضمونه واخلاقياته…
دلالات الانتصار والتواريخ عميقة، سواء خطط لها وهو الاقرب، أو كانت قدرا …. مضمون الانتخابات سواء من خلال برنامج أردوغان، أو حدة الصراع الذي دار فيها، أو انشغال العالم أجمع بها، لا تترك مجالا للشك انها تؤشر إلى انعطافة تاريخية لتركيا، بحجم إرثها الامبراطوري، وعمقها الاسلامي، ودورها كقوة إقليمية محددة في جيوبوليتيكا قلب العالم … مما يجعل الطموح التركي مفهوما …
ليس هناك من شك أن قرنا تركيا جديدا قد دقت ساعته … فهذا الانتصار على بعد شهرين من انتهاء مدة "معاهدة لوزان"، يعني أننا امام انعطافة حقيقية لا تخطؤها العين.
للانتخابات دروس كثيرة، وتواجه انتصارات أردوغان أسئلة كبيرة، بعضها من العمق بحيث يتجاوز مجرد تسجيل نجاح مستحق واستخلاص دروس مباشرة، لعلنا تساهم مع غيرنا في إثارتها …
غني عن التأكيد ان النجاح الاردوغاني قد أوقف انعكاسات سلبية جدا على منطقتنا، وسيحد بشكل أو بآخر من عبث خصوم امتنا في مقدراتها … ولكن … ولكن دون أن يحلم "قاعد" بانه قد جاء من يجلسه على كرسي وثير …. فتركيا ستنصر من ينصرها، ومن يثبت انه قادر على أن ينصر نفسه أولا … تركيا ستكون حاضرة، ولكن بدون القفز على منطق المصالح التي تفرضها طبيعة الدولة، وحسابات الربح والخسارة الاستراتيجية، ومعادلة المبادئ والمصالح المعقدة جدا عكس ما يتوهم التبسيطيون.
لا يجب ان ننسى التاريخ، فرغم الصعود العثماني الكبير في القرن الخامس عشر وفتح القسطنطينية سنة 1453، إلا ان ذلك لم يمنع حملة إبادة المسلمين بالأندلس وسقوطها الكامل سنة 1492، رغم استغاثات اهلها بالسلطان العثماني .