«الحياة الحقة» - De la Vraie Vie عنوان الكتاب الصادر في باريس (منشورات لوبسرفاتوار، يناير 2020) للفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان، (من مواليد 1951)، وهو أستاذ فرنسي يدرس في جامعة باريس 7- دنيس ديدرو، ويرأس معهد الفكر المعاصر. أمّا مؤلفاته، فهي مترجمة إلى عشرين لغة. اشتهر بدراساته عن الثقافة الصينية، حيث درَس اللغة والحضارة الصينية في جامعة بيجين وشانغهاي. والفرضية الأساسية لفلسفته هي ضرورة تطوير تفكير في معنى «الحياة» (على طريقة الشرقيين) بدلاً من الانحباس في تقاليد السؤال عن معقولية «الوجود» (التي تفرض هيمنتها على الفكر الغربي من اليونان إلى القرن العشرين). وهو يؤمن بأنّ «الآخر» لا يمكن اللقاء معه إلاّ في منطق «وسطي»، حيث يصبح خلق «المشترك» ممكناً، ولا يكون الآخر محصوراً في خانة «التشابه». ولذلك فإنّ عناوين كتبه هي من قبيل: «فلسفة الحياة» (2011)، «من الوجود إلى الحياة. معجم أوروبي- صيني عن التفكير» (2014)، «الحياة عن طريق الوجود. أخلاق جديدة» (2016)، «حياة جديدة (2017). »
وفي خضم هذا التقليد الفكري الطريف، يأتي الكتاب الذي اخترناه هنا، أي كتاب «الحياة الحقّة» الذي صدر راهناً.
يبدأ الكتاب بفصل عنوانه «الحياة الغائبة». وهو يفهم الغياب بوصفه نوعاً من «الاكتظاظ» يشعر به كل فرد في الأرض، وهو يتزايد تحت ضغط «ثقل لا مرئي» يمنع عنه عدداً هائلاً من «الممكنات» التي انسحبت. لكنّ هذا الشعور لا يصبح حاسماً إلاّ عندما ينجح في التحوّل إلى «هاجس»، إلى شكّ ما في «أنّ الحياة يمكن أن تكون على نحو آخر غير الحياة التي نحياها».
وهو هاجس قديم في نفوس البشر، يدعوهم إلى التساؤل فجأة: هل الحياة التي نحياها «هي حقاً الحياة»؟ ماذا لو لم تكن كذلك وأنّ شيئاً «حميمياً» في الحياة قد فاتني. ومن ثم الاستنتاج المزعج: «ربما أنا لم أبدأ بعد في الحياة بشكل حقيقي». يشعر كثير من الناس أنّ حياتهم مجرد «مظهر» من حياة لم يعيشوها أو هي «شبه حياة»، أنّهم يمرّون «بجانب» حياتهم، «بجانب الحياة الحقة، بجانب الحياة التي تحيا» حقّاً، دون أن يدركوها، أنّهم يفوّتونها.
وهكذا تبدو الحياة «الغربية» في نظر المؤلف وكأنّها تيّار من «الحيوات الزائفة» التي فقدت قدرتها على الدخول في علاقة «حميمة» مع نفسها. وفي تقدير المؤلف إنّ لسان حال الغربيين هو تقوّلهم اليومي: «ماذا لو أنّ حيواتنا ربما لم تكن غير أشباه حياة».
طبعاً، يحاول الناس عادة نسيان ذلك مثل نسيان كابوس. لأنّ ذلك صار شيئاً مألوفاً. وفي رأي المؤلف أنّ الوسيلة التي يستعملها الغربيون لنسيان ذلك الهاجس وهو ما يهدّد إمكانية التفكير فيه، ليس شيئاً آخر سوى «سوق السعادة والتنمية التي نسمّيها «شخصية» واللتيْن توحيان بأنّنا نفكّر». هذه البضاعة الثقافية التي جعلت من «التنمية الشخصية» موضوعاً خاصاً بها، هي تنتج «فلسفة مشبوهة» في كامل أوروبا، تدّعي أنّها «تحسّن» إحساس الناس بأنفسهم.
هي تركّز على «الحيوي وحده» لكنّها بذلك تقدّم ما هو «روحاني» ولكن «بلا مثل أعلى، دون أيّ جهد أو طلب». وهو تدجيل أخلاقي تحوّل إلى «إيديولوجيا مهيمنة». وحسب تقدير المؤلف، فإنّ هذا النوع من «البلادة» تهدّد الفلسفة بنفس الطريقة التي تكون بها حياتنا مهدّدة بالحياة الزائفة.
والحال أنّ الأمر يتعلق بنوع من «الفكر الكسول والانطواء، انطواء التفكير وانطواء الحياة»، على نحو يمنع الحياة كما يمنع التفكير في الحياة الحقة. ولذلك لا توجد من طريقة أخرى لنقد أشباه التنمية الشخصية دون أي محتوى روحي سوى أن نعود للتفكير في «الحياة الحقة» من خلال السؤال: كيف يمكن للحياة الحقة أن تتحوّل إلى «مفهوم يفضح في نفس الوقت ما يضعفنا في الحياة الزائفة كما في التفكير الزائف»؟ كيف يتمّ نسيان الحياة داخل الحياة نفسها؟ وأخيراً كيف نعيد الحياة إلى نفسها؟