إنّ ما نسمّيه "صراعًا تاريخيًّا بين الفلسفة والأديان" هو ظاهرة "ثقافية" أو "إيديولوجية" حديثة العهد جدّا، وليس جزءًا من ماهية الفلسفة في لحظاتها الأصيلة. بل إنّ اسم الفلسفة الأكبر هو "الإلهيات" وليس شيئًا آخر. وهل يوجد خطاب آخر للبحث في وجود الله أو خلود النفس أو طبيعة العالم غير الميتافيزيقا؟
- قد تكون أقوال الفلاسفة مثيرة للحيرة أو مدعاة للتساؤل العميق، أو جريئة جدّا بالنسبة إلى العقل الكسول، لكنّ ذلك لا يجعل منها عدوّة لمن يبحث عن الحق، أو يريد أن يحرّر نفسه و"يكسر زجاجة التقليد" كما قال الغزالي الحائر ذات مرة. ربما ما يثير في الفلسفة هو كونها تشترك مع الأديان في ميدان السؤال لكنّها تختلف عنه في طريقة الإجابة.
إنّ إله الفلاسفة مختلف عن إله الأديان لكنّه إله أيضًا. وليس خديعة نظرية. الفرق بين الفلسفة والدين هو كون الفلسفة تصارحنا بأنّ عقولنا هي سقف الحقيقة الممكنة بالنسبة إلى كائنات من نوعنا. أمّا الدين فإنّه لا يجرؤ على ذلك، وإلاّ انهدم بنيانه العقدي. والحال أنّ الدين هو أكبر مؤسسة معنى اخترعها النوع البشري من أجل تدريب البشر على تحمّل عبء الكينونة في العالم وتحويلها إلى مشروع أخلاقي لأنفسنا.
ولولا الدين لكان النوع البشري قد انقرض منذ وقت طويل. ولذلك فكلّ من يحرص على تغذية العداء المزّيف بين الفلسفة والدين هو لم يفهم شيئًا من طبيعة الحاجة الأصلية إلى السؤال الفلسفي، أي إقامة السؤال الكلي عمّا يتخطّى أفق العقل البشري كما هو متاح للكائنات التي من جنسنا، ومع ذلك نحن لا نستطيع ألاّ نتساءل عن ماهيته أو عن معناه أو عن نمط الكينونة في العالم التي يفرضها علينا.
وهذا أمر نعته "كانط" بأنّه "القدر الخاص" بالعقل البشري: كونه مهمومًا بأسئلة، من جهة، لا يستطيع تلافيها لأنّها نابعة من طبيعته، ومن جهة، لا يستطيع الإجابة عنها لأنّها تتجاوز قدرته على الإجابة. هل يمتلك الدين ميدانا آخر للمعنى؟ وما الذي يعنيه بكلمة "المقدس" غير تلك المنطقة التي تصبح فيها الأسئلة التي تؤرق العقل البشري ليس فقط ممكنة بل ملحّة بشكل لا مردّ له؟
قد تظهر الفلسفة في مظهر دين خجول. وقد يبدو الدين في هيئة فلسفة خرقاء. لكنّ ما يجمع بين الطرفين هو أرق العقل أمام ما يتعالى على النفس البشرية، ويدفع بها إلى نمط رائع ومريع من الأسئلة التي لا يمكن لأيّ طرف أن يزعم الإجابة النهائية عنها. ومنذ "كانط" أصبحنا نملك تفسيرًا مناسبًا لعقولنا عن كيفية تشكّل ميدان الرجاء في النفس البشرية، وكيف يمكن تمرين النفوس الحرة على إيمان بلا لاهوت جاهز.
ثمّ صرنا اليوم نعرف أنّ المقدّس ينطوي هو ذاته على شكل فريد من المعقولية، ينبغي الإنصات إليها ومساءلتها من الداخل دون أيّ أحكام "عقلانية" مسبقة. إذ يشير المقدّس إلى تجربة معنى على الفلاسفة (كما دعا إلى ذلك هيدغر) أن يدخلوا في حوار عميق معها. وهو ما حاول الانخراط في إنجازه فلاسفة أشدّاء من قبيل ليفناس وريكور ودريدا.
أشعر أنّ ثمّة إرادة تشويش على ثقافة العقل في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. فالكل يعلم، من الفقهاء إلى الفلاسفة، مرورًا بالساسة وكل أنواع المثقفين، أنّ الإسلام الكلاسيكي، مدوّنة وتجارب وآثارًا فنية وفلسفية وعلمية، لم يكرّس أبدًا عقلانية هدّامة لفعالية المقدّس. وإذا لم يكن أسلافنا قد رأوا أيّة فائدة ميتافيزيقية أو وجاهة حضارية في معاداة الشرائع، فلماذا نقوم نحن بذلك، نحن أبناء الأزمنة الحديثة؟
لقد تبيّن اليوم -أكثر من أيّ وقت مضى- أنّ الدين مؤسسة رمزية تنطوي على معقوليات محايثة، معقّدة ومتماسكة لا يمكن إنكارها. ومن ثمّ أنّ ما يسمّى "المقدّس" (وهي تسمية غريبة عن ثقافتنا الكلاسيكية) هو ميدان رمزي وتأويلي على قدر عال من الكثافة الدلالية والعقلية، وليس مجرّد جدار أخروي لا يجلس تحته إلاّ مجانين الموت.
وليس صحيحًا أنّ العقلانية والفلسفة هما مترادفان. كما أنّه ليس صحيحًا أنّ الدين والمقدّس هما نفس الشيء. ثمّة مقدّسات غير دينية بل علمانية أصلاً. وكلّ معارك الدولة القومية الحديثة تمّت تحت نداء مقدّسات غير دينية (تقديس الواجب، الوطن، الأرض، العلم، الكرامة،...). كما أنّ الفلسفة هي بالأساس تجربة تفكير حرّ ينقد العقل في كل ملكاته، ويرسم حدوده ويحاكمه، وإن كان يفعل ذلك بواسطة العقل نفسه. وهذا ما لا يريد دعاة التكفير فهمه: أنّه يمكننا كبشر أن نذهب فيما أبعد من عقولنا ولكن بواسطة عقولنا وحدها. وكل سردية أخرى، مهما كانت نبيلة ينبغي مرافقتها بالعقل. وعلى كلّ فإنّ العقل مؤسسة لم تستقرّ بعد لدينا.