«الصهيونية» ليست مفهوما فلسفيا، ومن ثمّ فإنّ أيّ تعريف لها هو «لا-فلسفي». إلاّ أنّه علينا أن نأخذ «اللاّفلسفة» بوصفها أفق فهم، أو أداة تفكير، على قدر مزعج من الخطورة. «اللاّفلسفة» هي منطقة خطاب، حيث ينزلق الفلاسفة في الإدلاء بآراء «غير فلسفية» حول مسائل «غير فلسفية». لكنّ ذلك لا يقلّل أبدا من «خطورة» ما يقولونه، بالنسبة إلى قرّائهم، أو بالنسبة إلى المجتمعات، التي ينتمون أو لا ينتمون إليها.
يتعلق الأمر إذن، بخطورة أخلاقية، وليست خطورة نظرية. وهذا يعني أنّ كلّ ما يقوله فيلسوف في سياق «غير فلسفي» يحتفظ دوما بخطورته الأخلاقية، وإنْ كان في حلّ تامّ من أيّ محاسبة نظرية.
وهذا ينطبق على مسألة «الصهيونية». فمنذ استحداث هذا المصطلح وظهوره على يد الكاتب النمساوي ناتان بيرنباوم (1864-1937) ضمن مجلّة « Selbst-Emancipation» (التحرّر الذاتي) في 16 مايو/أيار 1890، ما فتئ يجمع في نواته بين خيطين متضافرين: دعوى «صهيون» (الذي يُضمّن عادة دلالة جغرافية تشير إلى «تلّ» أو «حصن» أو مكان في «أورشليم» اليهودية، أو دلالة روحية في أورشليم السماوية عند المسيحيين)؛ لكن أيضا، دعوى «الوطن القومي لليهود» الذي يريد أن يستغلّ الجوّ القومي الكولونيالي لأوروبا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
نحن أمام رمز أدبي للمكان في نصوص العهد القديم (المكتوب في صيغته، التي وصلت إلينا ما بين القرنين السادس والأول قبل الميلاد) تمّ استخدامه بشكل منهجي «حديث» أي كتقنية بلاغية لنوع من سياسة الخطاب، من أجل اختراع «وطن قومي لليهود» بطريقة سردية، ثمّ الشروع في تنفيذ هذه السردية بشكل «كولونيالي».
«الصهيونية» إذن هي تصريف مزدوج لدلالة «توراتية» في معجم «كولونيالي» أوروبي. وعلى الضدّ من منطق «الحداثة» التي اعتمدت معجم «القانون الطبيعي» التنويري لممارسة «الاستعمار» باسم الحضارة الغربية، فإنّ الصهيونية كانت ضربا من الانتهازية الحداثية، التي تعوّض المعجم «القانوني» بالمعجم «التوراتي» لكنّها تحتفظ بالنيّة الكولونيالية للدولة /الأمة الأوروبية. وعليه، فالصهيونية هي حركة سياسية «حديثة» من حيث المشروع الكولونيالي، لكنّها حركة دينية «متطرّفة» من حيث العقيدة الأخلاقية. هذا الجمع الغريب والباثولوجي بين الكولونيالية والتطرّف قد جعل السردية الصهيونية معضلة أخلاقية مربكة للعقل الغربي.
لا يوجد تعريف «فلسفي» حقيقي للصهيونية. ولذلك فإنّ الفلاسفة اليهود أنفسهم قد ظلّوا يحتفظون لأنفسهم ببعض الاحترازات الشخصية من التبنّي اللامشروط لأطروحة الصهيونية. مثلا، تقول حنّا أرندت، في حوار أجرته في سنواتها الأخيرة، سنة 1972: «أنا لا أنتمي إلى أيّ فريق. وأنتم تعرفون أنّ الفريق الوحيد، الذي كنت انتميت إليه هو فريق دعاة الصهيونية (the Zionists). كان ذلك فقط بسبب هتلر، بكلّ تأكيد. وكان هذا من 1933 إلى 1943. وبعد ذلك، أنا قطعت الصلة به. كان ذلك الإمكانية الوحيدة كي تردّ بوصفك يهوديّا، وليس بوصفك إنساناً، والتي كانت، على ما أعتقد، خطأ كبيرا (a great mistake) لأنّه إذا ما هوجمت بوصفك يهوديّا، فإنّه يجب عليك أن تردّ بوصفك يهوديّا، ولا يمكنك أن تقول، ‹اعذروني، أنا لست يهوديّا؛ أنا إنسان.› هذا سخيف. وقد كنت محاطة بهذا النوع من السخافة (silliness). لم تكن هناك إمكانية أخرى، لذا ذهبت إلى السياسة اليهودية، وليس السياسة في حقيقة الأمر.. ذهبت إلى العمل الاجتماعي وكان ذلك بوجه ما مرتبطا بالسياسة».
ومن المعروف أنّ حنّا أرندت اهتمّت بنقل الأطفال والفتيان اليهود إلى فلسطين، التي زارتها في ربيع 1935. لكنّ ما احتفظت به من تلك الأعوام السبعة هو خاصة «ذكرى عن تجربة الاحتقار، الذي سيغذّي عندها ضغينة صلبة، إزاء البورجوازية اليهودية».. احتقار اليهود الفرنسيين والألمان لغيرهم من اليهود ما وراء نهر الراين. كانوا يطلقون على بعضهم لعضا نعوتا تحقيرية من قبيل: Polaks، أي «بولوني» وهي صفة تحقيرية ليهود منحدرين من الأشكناز؛ Ostjuden، أي «يهود الشرق»؛ Jaecke، الجيل الثاني المولود في فرنسا، Herr Schnorrer، السيّد المتسوّل… ولذلك كانت أرندت تتحدّث عمّا تسمّيه «أزمة الصهيونية» منذ سنة 1942. ما كانت تطالب به هو تكوين «جيش يهودي» لمقاومة النازية، وعدم اكتفاء الصهيونية بمجرّد «تحويل «شعب الكتاب» إلى شعب من ورق». وعلاوة على ذلك، تنحدر أرندت من عائلة مندمجة تمامًا في المجتمع الألماني، وكان جدّها معاديا للصهيونية.
لكن يوم 6 أكتوبر/تشرين أول 1973، وفي مقابلة أجريت معها عندئذ، صدر عن أرندت قول آخر: فحين سئلت عمّا تغيّر في وضع اليهود في العالم بعد «وجود إسرائيل» قالت: «أعتقد أنّ ذلك قد غيّر كلّ شيء. اليوم، نجد أنّ الشعب اليهودي هو حقًّا متّحد وراء إسرائيل. هم يشعرون أنّ لهم دولة، وتمثيلا سياسيّا، تماما مثل الأيرلنديين أو الإنكليز أو الفرنسيين. هم يملكون ليس فقط وطنا، بل يملكون دولة قومية، وموقفهم كلّه إزاء العرب، يتوقّف في شطر كبير منه على تعريف هووي (identification). كان اليهود الآتون من أوروبا الوسطى قد قاموا به دوما بشكل غريزي ودون تفكير. إنّ الدولة يجب أن تكون بالضرورة دولة قومية. واليوم، فإنّ إسرائيل هي ممثّل الشعب اليهودي في العالم أجمع. سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، هذه مسألة أخرى. هذا لا يعني أنّ يهوديّة الشتات يجب أن تكون دوما على الرأي نفسه مع الحكومة الإسرائيلية. ليست مسألة حكومة، بل مسألة دولة. وطالما ستوجد هذه الدولة، فإنّها سوف تكون بالطبع ما يمثّلنا في عيون العالم».
من الطريف جدّا أن ننصت لما يقوله «فيلسوف» يهودي عن «وجود إسرائيل» ألفى نفسه خائفا على شعب ينتمي إليه، لكنّه يفضّل أن يبقى من «يهود الشتات». صحيح أنّ أرندت تعتبر «وجود إسرائيل» مكسبا لليهود في العالم بوصفه «ممثّلا» لهم باسم «دولة قومية» ممّا يعني أنّ اليهود قد ظفروا أخيرا بشرط «الحداثة السياسية» حسب الأوروبيين، أي «الدولة/الأمة» التي تمثّل شعبا ما. لكنّ أرندت ما تلبث أن لمّحت إلى أنّ ذلك لا يعني أنّ يهود الشتات يجب عليهم أن يكون لهم «الرأي نفسه» مع الحكومة الإسرائيلية. إنّ موقفها إذن متلطّف: هي مع «الدولة القومية» (وهو حلم اليهود الذين عانوا من معاداة السامية) لكن ليس بالضرورة مع «الحكومة الإسرائيلية» (أي احتلال فلسطين وتهجير العرب منها). إنّ أرندت تنبّه إلى الأهمية الفلسفية للمسافة، التي يجب على «يهود الشتات» أن يحتفظوا بها إزاء «الدولة القومية» أي دولة الاحتلال أو الدولة الكولونيالية. ونحن شهدنا حركات التضامن الواسعة مع فلسطين وغزّة من قِبل يهود الشتات في عواصم الغرب نفسه، حيث الدول تدعم إسرائيل. ليس «الفيلسوف» هذه المرة، بل «الإنسان العادي» هو الذي ينجح في الاحتفاظ بإنسانيته، ضد الاستعمال الكولونيالي للانتماء.
من المفيد أن نذكّر بأنّ سردية «حقوق الإنسان الكونية» هي سياسة خطاب، ربما ساهم فيها فلاسفة التنوير، لكن على الخصوص اعتمدها نظام معيّن للدول، في طور من أطوار الحداثة السياسية، في الغرب، وليست نظاما للحقيقة، كما قد نعتقد عادة. لا يعني ذلك أنّه من المستحيل بناء «حقوق كونية للبشر» بل فقط: إنّ «الإنسانية الأوروبية» (حسب تعبير هوسرل) التي اخترعت «الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن» سنة 1789 قد فعلت ذلك لحاجات أخلاقية وسياسية خاصة بها، في لحظة ما، وهي لم تفعل ذلك إلاّ في أفقها الخاص، في أفق فهمها الخاص لنفسها: لقد كانت تظنّ أنّ «الإنسان» هو «الإنسان الأوروبي» فحسب، وليس أيّ إنسان «آخر». بل من المفيد أن نعرف أنّ الفلسفة الأوروبية، فلسفة التنوير، قد وضعت ذلك «الإعلان عن حقوق الإنسان» قبل أن تأتي إلى تطوير مقولة «الآخر» ابتداء من هيغل، أي بعد 1807. وهو «إعلان» لن يصبح «كونيّا» إلاّ بعد سنة 1948، أي في وجه من الوجوه، بعد ما جرى في الحرب العالمية الثانية، ممّا تمّ تكريسه تحت اسم «الهولوكوست». «كوني» يعني هنا: يمكن أن يضمّ «الآخر» التقليدي في ثقافة أوروبا الحديثة، أي «اليهودي التائه». «الآخر» هي الصفة الشخصية المحجوزة منذ قرون لمعاصر «داخلي» واحد: ألا وهو «اليهودي» سواء كان داخل «الغيتو» أو «الخارج من الغيتو».
هنا يمكننا أن نعثر على الرابط البنيوي بين «الإعلان الكوني عن حقوق الإنسان» (Universal Declaration of Human Rights) وهو «كوني» (universal) وليس «عالميّا» أو لم يوصف ربما بأنّه «عالمي» إلاّ في الترجمة العربية. ومن الطريف أيضا أنّ ذلك تمّ في الترجمة العبرية، التي تحيله على «العالم» (עולם)- وبين الاعتراف بدولة إسرائيل بوصفها عضوا «شرعيّا» في الأمم المتحدة: إنّ ما يسمّى «إسرائيل» (لفظ يعني في أصله «الإله الذي أثبت أنّه قويّ» بعد صراع يعقوب طيلة الليل مع ربّه) هو «بناء» خطابي «أممي» لا يمكن أبدا تصوّره خارج إطار «الخطاب الأممي» الذي وضع مدوّنة «الإعلان الكوني عن حقوق الإنسان».. كان هذا «الإعلان الكوني عن حقوق الإنسان» هو شكل الشرعنة الدولي لإحداث «وطن قومي لليهود الناجين من المحرقة» على نحو يفترض بالضرورة وبشكل بنيوي، السكوت الأممي والقانوني والكوني على عمليّة التهجير، التي وقعت على السكّان الأصليين لأرض فلسطين، بوصفهم سكّانا أصليين «غير موجودين» على «أرض بلا سكّان».
ذلك يقودنا إلى هذا الافتراض: إنّ «الإعلان الكوني عن حقوق الإنسان» سنة 1948 لم يكن يعني في المعجم الأوروبي عندئذ سوى «الإعلان الكوني عن حقوق اليهودي التائه» في «وطن قومي» خاص به، في أرض فلسطين، لكن أيضا، وفي الكرّة نفسها، لكن بشكل صامت، «الإعلان الكوني عن شرعيّة تهجير السكّان الأصليين في فلسطين» بوصفها أرضاً بلا شعب. لذلك ثمّة مفارقة مؤلمة تثوي تحت كلّ «خطاب» حقوقي حول الفلسطينيين: إنّ الإعلان الحقوقي هو الذي حكم عليهم بوضع «اللاّوجود» القانوني، وهو الذي حوّلهم إلى «لاجئين» في أرضهم، بعد أن كانت صفة «اللاجئين» خاصة باليهودي الأوروبي. ويمكننا أن نراجع هنا مقالة حنّا أرندت سنة 1943 «نحن اللاجئون».
لذلك ربّما من الحري بنا أن نحترس من أيّ انخراط ساذج أو غير نقدي في «خطاب» حقوق الإنسان «الغربي» وكأنّه يرانا أو يعنينا. إنّ «الكوني» هنا لم يعد يعني سوى «العالمي» أي «الأوروبي» المعدّل سنة 1948: أي «الغربي» الذي أضاف إلى العائلة المقدّسة ذلك «الآخر» الداخلي التقليدي، نعني «اليهودي التائه» بعد دفع فاتورة «المحرقة». لكن هذه المرة ليس باعتباره «آخر» بل بوصفه عضوا شرعيّا و»أمميّا» و«كونيّا» في مؤسّسة الغرب. هذا هو معنى «الكوني» منذ سنة 1948.
من أجل ذلك علينا أن نلاحظ ما يلي: أنّه في كلّ الجرائم السابقة ضدّ الإنسانية كان «السكوت» هو الذي قتل الضحايا، ومنهم اليهود الأوروبيون، إلاّ هذه المرّة: إنّ الفلسطينيين يُبادون باسم «الخطاب». وحده الغرب صار يحدّد «من» الضحيّة، وهو وحده الذي يملك «مقام» الخطاب.. وخاصة الخطاب الذي أخذ شكل «القانون الدولي» بوصفه التقنية الجديدة، ما بعد الحديثة، والإنجازية، للسكوت المنظّم ضدّ «عدوّ مختار جيّدا». و»نحن» عموما، ثمّ أهل فلسطين خصوصا، هم هذا العدوّ الإنجازي.