جاد الهنشيري الذي تودّعه تونس اليوم من أم العرائس، هو الذي ألّف بين الطبّ والحكمة مثلما دأبت العرب قديما على تزكية طبيبها بأرقى المعاني وأنبل الصّفات، فميّزت قيمته الطبيّة بسموّ الحكمة. وحجّة ذلك أنّ الطّبيب يجمع بين كلّ ما يلتئم في الذّات البشريّة من دراية ومعرفة بمعنى الحياة وقيمة الإنسان. وهو المهيّأ أكثر من غيره إلى نكران ذاته من أجل الآخرين، لأنّه الأكثر إحساسا بأوجاع النّاس بفضل ما جمعه من معرفة عزيزة المذهب صعبة المنال بأسرار الأجسام وعللها وأسقامها وما يُتعبها من كبائر النّفوس ومرادها.
جاد الهنشيري، الطبيب الحكيم. النّجم السّاطع في سماء تونس الغائمة، والأمل القادم من المستقبل القاتم، ومن جيل الحريّة الذي اعتنق الإنسانيّة فذلّل من أجلها مصاعب التّطبيب أو ناضل من أجل ذلك دون هوادة. لم يركن إلى الدّعة والسّكينة لأنّه لم يتّخذ من الطبّ منفذا إلى الرّضى والقرار المتاحين لكلّ طبيب بكلّ يسر، بل جعل منه عنوانا لمداواة تونس العليلة، فعانق به عنان السّماء والحكمة. لقد سعى إلى أن يُدخل على الطبّ تحويرا جينيّا في قيمه وأخلاقياته، وفي مبادئ المهنة ونظامها، فجعله طبّا مناضلا، بل عمل على إعادته إلى جوهره الإنساني. ولا شكّ أنّ قصر الحياة لم يمهله ليحقّق ما طمح إليه وليصبح ما يريد، فغادرنا وترك فينا الكثير من أحلامه.
إلى حين وداعه ظلّت تونس جحودة مع الحكيم جاد، وهي – في ذلك – وفيّة لجحودها المعتاد. هذا الجحود الذي أثبتته مع كلّ من سعى إلى معافاتها من أسقامها فأنكرت عليه حتّى حقّه في الاعتراف، وجعلت منه وديعة منسيّة في التّاريخ، عسى الأجيال القادمة تعيد إحياءه بعد أطوار زمنيّة من التعاقب البطيء والقاتل على معنى الحياة.
وفي رمزيّة هذا الوداع ما يوحي بأنّ الطبيب الحكيم جاد غادر "حياة الموت البطيء" التي نعيشها، ونجا بنفسه مبكّرا إلى الموت الحق. لقد استعجل أمره بهذه الحقيقة المطلقة، فعجّلت به، ليتركنا وهو أبرز جنود الدّفاع عن الحياة وحب الحياة، لأنّه الطّبيب الذي يقاوم الموت، بل هو الطّبيب الذي استأثر بصفة الحكيم لأنّه استخرج من الطبّ كلّ ما جال فيه من حكمة الإنسان لاستخدامه من أجل الحياة، حبّا للحياة.
إلى حين نجا الحكيم جاد من "حياة الموت البطيء" لم تكن تونس تملك من الحكمة ما يكفي لتستمع إليه. نعم إنّ تونس السّقيمة لم تنصت إلى طبيبها الفتيّ، وهي في أوكد الحاجة إلى حكمته، وطاقته، وإبداعه، وشجاعته، وعنفوانه، فغادرها مبكّرا وهو في ريعان الشباب. وإن لم تكن مغادرته يأسا وقنوطا فلا شيء يُنبئ بأنّه غادرها وهو مطمئنّ عليها. لذلك فقد هجرها، إلى الحقيقة المطلقة، هجرا هادئا واختار السّكينة الأبديّة ليعتزل ما يؤذيه.
حدس السجيّة الأولى، وهو الحدس البسيط والحزين بداخلنا، يقول بأنّ الطّبيب يغادر مريضه يأسا من المعافاة والمريض يودّع طبيبه إعراضا عن الحياة.
رحم اللّه الحكيم جاد الهنشيري.