لترى الأشياء في أحجامها لابدّ من شيء من الرّشد. لن ترى فرنسا كما هي حين تفتقر إلى ذلك المقدار من الرّشد. ستراها غالبا بعينين يتشابهان، عين الرّضا وعين السّخط. وقس عليها علاقتك بدولة الاستقلال وقياداتها.
المشكل هو أنّ الرّشد في مجتمعات تتالت عليها النّكبات أمر أشبه بمعجزة. فأن يقع الاحتلال باليسر الذي حدث به وأن يستمرّ رغم بعض المقاومة وأن يخرج بأفضل التّكاليف له؛ ثمّ تأتي دولة وطنيّة فتستبد وتهترئ إلى أن تصبح أقرب إلى الاحتلال الدّاخلي، لم يسلم أجيال من النّاس من شرّها...أن يحدث ذلك، وضمنه تفاصيل لا تحصى يجعل وجود توازن وعقل ونضج أمورا متعذّرة.
منذ أيّام، وأنا أقرأ سيرة روائيّة كتبتها دلفين مينوي الفرنسيّة من أصل إيراني وجدتُها تنقل حديثا جمعها بحسين الخميني، حفيد الإمام قائد الثورة الإيرانيّة. وجرى حوارهما عفوا وعرضا، وهي تغطّي سقوط بغداد الفاجع سنة 2003. ووصفت الإطار، وهو موجات من الحجيج الإيرانيّين إلى المراقد.
وقد شدّ انتباهي ما وصفته من سعادة حسين الخميني بالغزو الأمريكي، والأمر لا علاقة له بالشّماتة في العراق لأنّ الرّجل عبّر صراحة عن أمنيته أن تكون إيران هي وجهة الأمريكان المقبلة. يقول، فيما نقلته عنه المراسلة الصّحفيّة: "كما تعلمين فالإيرانيّون مغرمون بالحرّيّة، وهي حلم من المستحيل تحقيقُه طالما أنّ الدّين والسّياسة مرتبطان. فليس هناك إذن بديل عن تدخّل الولايات المتّحدة للحصول على هذه الحرّيّة، وأعتقد أنّ الإيرانيّين سيدعمون هذا التّدخّل، وأنا أيضا"
مواقف الحسين الخميني حينها في ذمّ دولة ولاية الفقيه معروفة. ولك طبعا أن تعجب كيف لمن ترعرع في قلب "مجد" جدّه أن يغرم بألدّ أعداء بلاده في تاريخها المعاصر؟ وكيف لمن شهد "حلم" قيام الجمهوريّة الإسلاميّة أن يصل في اليأس منها إلى هذا الحدّ؟ ولم أمريكا على تاريخها وحاضرها الدّمويّين تصبح مثالا يُراد التّعويل عليه في استجلاب الحرّيّة؟
وغالبا ما تجد الإجابة التالية: يذهب الاستبداد بالرّشد حتّى يصير الاحتلال متمنّى، ثمّ يأتي الاحتلال أو الفوضى فيصير الاستبداد هو المتمنّى.
وهذا يبني ما يشبه القاعدة: مادمتَ منتهكا فأنت ممنوع من النّضج وإن أردته. ولن ترى "غربا" على حقيقته ولا "شرقا" كما هو.
أهمّيّة الأزمنة الانتقاليّة التي نعيشها هي في كونها قد تجعلنا نكتشف "نزعات طفوليّة" مدمّرة ناتجة عن فقدان رشد معمّم. وربّما إذا تخلّصتْ من خطري الاحتلال الشّامل والانكفاء إلى الاستبداد أن تكون مدخلا لنضج سيحتاج أوقاتا طويلة كي يحدث.
وجملة الحسين الخميني -وفي الجهة الأخرى جمل الحنين إلى الاستبداد-موقف مكرور في التاريخ، وتجلّى مرارا في ظاهرة قبول الاحتلال الخارجي باعتباره أهون من الاحتلال الداخلي، أو طلب الاحتلال الدّاخلي باعتباره أهون من الفوضى. وهو ترتيب لا أساس له من المعقوليّة. لكن هذا ما يحدث. وليس أسهل طبعا من نعت الموقف بكلّ صفة. لكن لن يغيّر ذلك من حقيقة أنّ الإنسان في الفرار من الظّلم المحفوف بكلّ المزالق يمكن في يسر أن ينفض عن كتفيه "عبء" الوطنيّة والدّين وكلّ شيء.
لن يصبح الاحتلال الخارجي أو الدّاخلي أبدا حامل رسالة إنسانيّة. لكنّ التّشويه الرّوحي الذي يحدثه جور الاحتلال وجور الاستبداد، وهما غالبا حليفان وإن تصادما أحيانا، هذا التّشويه يمحو خطوط التّمييز بين القيم، وينشأ بسببه نوع إنسان ممنوع من النّضوج، شبيه بطفل أبدي يدفعه انتهاك عائلته إلى بيع المنزل كلّه ما إن تتاح الفرصة.