من البديهي أن تحظى الانتخابات الأمريكية بهذا الاهتمام، فأمريكا تتربع على عرش النظام العالمي القائم منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية بفعل تفكك الاتحاد السوفياتي. ولا شك في ان وصول بايدن إلى الحكم سيعني بشكل أو بآخر تغيرات في السياسة الخارجية على الأقل حسب ما أعلنه هو في سياق حملته الانتخابية..
مما يعني ان وصوله قد يحرك بعض الملفات التي اتسمت بالجمود في الفترة الماضية والتي باتت بحاجة إلى تسويات تمنع انفجارها.. ولعل العنوان الأهم والأبرز في سياسة بايدن الخارجية سيكون إيران والعودة إلى الاتفاق معها..وصول بايدن سيعني بدرجة أولى رفعا للحرج الكبير الذي كانت تواجهه الجمهورية الإسلامية في علاقة بالعودة للمفاوضات مع واشنطن..
فالعودة للحوار مع أمريكا في ظل بقاء ترامب وإدارته في البيت الأبيض كان سيعني خدشا لكبرياء القيادة الإيرانية التي بينها وبين ترامب دم "ودم ليس كأي دم" فهو المسؤول عن اغتيال الشخصية الأكثر وزنا في إيران على الصعيد العسكري وعلى مستوى التأثير الإقليمي..
لذلك فإن خروج ترامب من البيت الأبيض هو عامل ملائم لعودة الحوار بين واشنطن وطهران الساعية لرفع جحيم العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها عليها من قبل ترامب في إطار سياسة الضغوط القصوى التي كان يتبعها مع إيران..والتي فشلت في جلب إيران إلى طاولة التفاوض وجعلت انتظار ترامب لاتصال هاتفي من القيادة الإيرانية يطول كثيرا..
بخروج ترامب ووصول بايدن إلى الحكم من الملح طرح سؤال حول مدى جدية وواقعية التعهد الانتخابي الذي قدمه بايدن في علاقة بإيران..ما مصير سياسة إيران في المنطقة..فرفع العقوبات عنها يعني تصاعد "نفوذها الإقليمي"..إيران التي تهتف بالفناء لإسرائيل وتعمل بالسلاح والكلمة على تعجيل هذا الفناء من خلال مضاعفة التهديد الوجودي حولها..هل ستقبل أمريكا بايدن بتقوية جموح ايران وتعزيز تهديدها للكيان..؟
ثم ما مصير قطار التطبيع الذي أطلقه ترامب..هل سيتوقف؟ ولمن سيسلم بايدن ملف الشرق الأوسط؟ وهل ستختلف سياسته عن ترامب؟ قد يقول البعض أن أمريكا هي أمريكا..بايدن أو ترامب لا يغير شيئا.. لكن هذا القول يغفل عن حقيقة كانت جلية في عهدة ترامب الرئاسية..لقد قام ترامب بتسليم ملف الشرق الأوسط وأساسا القضية الفلسطينية إلى مجموعة من المتصهينين (بولتون، بومبيو وكوشنر...)..هؤلاء قاربوا السياسة الأمريكية في المنطقة بعين إسرائيلية..عكس إدارة أوباما مثلا الذي عقد اتفاقا مع إيران رغم رفض إسرائيل آنذاك لهذا الأمر..
فإدارة ترامب قدمت لإسرائيل ما لم تقدمه أي إدارة في تاريخ أمريكا (تطبيع، إعلان القدس عاصمة للكيان، وشرعنة احتلال الجولان السوري وإنهاء لحل الدولتين بالاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية على أراضي 67) .
طبعا كان لافتا في الأيام الأخيرة تصريح رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين الذي تحدث عن تطبيع في الأفق مع قطر والمغرب وعمان والأردن..فهل كانت هذه هدية ترامب في صورة فوزه أم أنها ستستمر مع الإدارة الأمريكية الجديدة؟ وهل يعني وصول بايدن نهاية سياسة "الجر إلى حظيرة التطبيع بسياط الإذلال والتخويف"..
لاشك أيضا أن هذه النتائج ستقرأ بتوجس كبير في موسكو وأنقرة..فقد كان مثيرا للانتباه وصف بايدن لترامب في المناظرة الأولى التي جمعتهما ب"جرو بوتين"..هل سيعني وصول بايدن نهاية المساكنة التي كانت تحكم العلاقة بين روسيا وأمريكا في ملفات عديدة في المنطقة، لعل أبرزها سوريا وليبيا؟ ففي ظل إدارة ترامب لم تصل العلاقة مع روسيا إلى الصدام..
نفس الشيء في علاقة بتركيا..فأمريكا ترامب لم تمنع تنمر أردوغان على حلفاء أمريكا التاريخيين والجدد( فرنسا، الإمارات، السعودية...)، وتركته يقوم بدور وظيفي يتمثل في إزعاج إيران ومشاكسة روسيا في الملف السوري خاصة ..
ورغم خطب أردوغان وهجومه على الحليف الطبيعي لأمريكا في المنطقة (اسرائيل) إلا أنه لم يتتضرر..على الأقل بالشكل الذي تضررت به إيران نتيجة دعمها العسكري لخصوم الكيان وموقفها الواضح والجريء من القضية الفلسطينية..
وإن نحن أخذنا بعين الاعتبار تصريحات بايدن ومهاجمته لأردوغان وإعلانه عن وقوفه إلى جانب المعارضة التركية فسنكتشف أن حقبة بايدن ستكون محكومة بتوتر مع تركيا وأن أردوغان لن يكون مرتاحا كما كان مع ترامب الذي أطلق يده في المنطقة..بالتالي يصبح فرح تيارات الإسلام السياسي في الدول العربية فرحا غير مفهوم إلا إن قرروا التخلي عن حليفهم الأكبر في المنطقة الا وهو أردوغان..
من الطبيعي أن ننتظر أكثر لنكون أقدر على استقراء سياسة بايدن الخارجية فملامحها ستأخذ وقتا لتتبلور..ولكن ارتدادات التغيير الحاصل في أمريكا على المنطقة لن يطول انتظارنا لها فقريبا جدا ستبدأ بالظهور على رادار الاشتباك الإقليمي.