آهِ.. ما زالوا يغنُّونَ لنا
إنَّ القرى لم تنتظرْ شهداءَها
قصة القصيدة:
عمر هذه القصيدة ستة و عشرون جرحا"1988" كتبتها وأنا في ريعان شعري و قهري... وكانت فيها مباغتات وتنبؤات لم أنتبه إليها إلا بعد سنوات عجاف.. علما إن القصيدة نشرت في بعض المجلات وقتها.. منها مجلة" الوحدة "المغربية المتوقفة عن الحياة منذ موت بعيد.. وهي نفسها عنوان ديواني الثاني الصادر عام 1993 وها أنشرها بعد هذه السنوات الطوال.. لا لأنكئ الجرح.. ولكن لأؤكد أن الشهداء- كآلهة شداد- لا يموتون.. وأن "حلبجة" ناهضة من موتها العظيم... من رماد شهدائها الذين يملؤون ساحة القلب دخانا... وطبول حب.. و نشيد حرية..
كانتْ تباغتني مساءً
قبلَ أسفاري اللجوجةِ
لم أكنْ أبداً أعانقُ غيمةً صفراءَ
تزهو في سمائي المكفهرةِ بالشروخِ
حبيبتي نامتْ كعادتها على جمرِ المدائنِ
لم تُفقْ إلا على صوتِ المؤذِّنِ
معلناً موتَ الطبيعةِ..
معلناً موتي أنا
ماذا سيفعلُ عاشقٌ في حضرةِ الموتِ الذي
يأتي سريعاً
ثمَّ يستولي على أشهى القرى؟
كانتْ حلبجةُ مثل بيروتٍ
تنامُ على سريرٍ من دمِ الفقراءِ
في غابِ الأسرَّه
من أينَ أبدأُ والبداياتُ الجميلةُ ميْتةٌ
بل كيفَ أنهي والنهاياتُ الذبيحةُ حيَّةٌ؟؟
إني أراوحُ في مكانٍ فوقَ جمرهْ
كانتْ تباغتني مساءً
لم أكنْ أدري بأنَّ جموعَنا- نحن الرفاقَ -
سترتقي عرشَ الدماءْ
سأعودُ محمولاً على كفنِ القصيدةِ
ولتكنْ كلُّ القصائدِ في رثائي
أو في التغزلِ بالفناءْ
يا صاحبي
أنت الذي دجَّجتَ بالصمتِ المخيفِ صراخنا
أنت الذي حلَّلتَ سفكي
يا صاحبي المشلولَ.. يا رجلاً
على عكَّازةِ التاريخِ يسْتبكي ويبكي
كانتْ تعدُّ ليَ المفاجأةَ الثقيلةَ
كلُّ أشلائي التي هرَّبتُها احترقتْ معي
وأنا احترقتُ..
وقلتُ للنارِ الجميلةِ: فلتكوني
أنتَ وحدكَ كنتَ قربي خائفاً
يا صاحبي
ولقدْ نسيتُ كلامنا قبلَ الأخيرْ
لكنني لم أنسَ أني
في توابيتي احترقتُ
وها أنا بين الهجيرْ
لستُ الرمادَ المبتغى
يا.. آهِ
من شهقاتِ قلبي والقرى
والتينِ والزيتونِ والدمِ
آهِ..
من أنَّاتِ بيروتَ التي
شاهدتُ في ساحاتها
شهداءَ فاتحةِ الزمانِ
زمانِنا المعشوقِ والمشنوقِ
يا مدناً تباركَ وجهُها المحروقُ
يا مدنَ البداياتِ الضريرةِ
والنهاياتِ البصيرةِ
إنني أعلنتُ حبي
أعلني يا حربُ حربكِ
فالنهاياتُ الطليقةُ في انتظاري
كلُّ المجازرِ ساهمتْ في بترِ أعصابي
وكلُّ مضلِّلٍ ذرَّ الرمادَ على العيونِ
والتينِ والزيتونِ والبلد الحزينِ
قُتلَ الأجنَّةُ في البطونِ..
واغتيلَ زهرُ الزيزفونِ
يا صاحبي
ها لم تحركْ ساكناً
صمتٌ..تعذِّبني مساءاتُ السكونِ
والى أعالي الفجرِ يدفعني حنيني
يا صاحبي
هيَّا استحمَّ ببوحِ عاصفةٍ
وأعراسِ الجنونِ
لنكنْ معاً
نمشي على أوجاعنا
إنَّ القرى لم تنتظرْ شهداءَها
رحلتْ ولم تتركْ سوى ذكرى المنونِ
كانتْ تباغتني مساءً
لم تكنْ(هيرو وغانا)
غيرَ فاتحتينِ للدمِ والمجونِ
كانَ الغزاةُ مدجَّجينَ بموتنا
مازلتُ أذكرُ أنهمْ بالوا على دمنا
وناموا هانئينا
ها نحنُ نحفظُ كلَّ درسٍ
غيرَ أنَّا قد نسينا
معنى الرجوعِ إلى الحياةْ
لكنَّها - أعني الحياةَ - تضجُّ فينا
صوت:
يا أيها الشهداءُ
أحياءً وأحياءً
كآلهةٍ شدادْ
كانتْ مطارقكمْ مضمَّخةً
بموسيقا الولادةِ والحِدادْ
كانتْ مناجلكمْ مهيَّأةً
لأسفارٍ إلى دنيا الحصادْ
وزنودكم لم تحترقْ إلا بطيئاً
في أتونِ القهرِ والشوقِ المجنَّحِ
للمدى المخضرِّ
فانهمرّ الرمادْ
كانتْ حلبجةُ نجمةً
لم تهوِ إلا غيلةً
في قاعِ روحي باتقادْ
كانتْ حلبجةُ غيمةً
سقطتْ على قلبي
ففاضتْ روحها وتوزَّعتْ بين العبادْ
هجعتْ حلبجةُ في دمي
وهجعتُ في دمها
فلن نُمحى كلانا
أو نُبادْ
صوت:
ما عندكم يخبو…. وما عندي يشعُّ
وما يشعُّ هو المدى المخضوضرُ المجبولُ من
ألقِ البنفسجِ والرصاصْ
فاذهبْ جفاءً
أيها الزبدُ المهددَ بالقصاصْ
كانتْ تباغتني مساءً
كلُّ قافلةِ الثكالى واليتامى
كلُّ عشاقِ الخلاصْ
صوت:
قد آنَ أنْ يترجلَ الدمُ و البنفسجْ
من صهوةِ الجرحِ المؤججْ
قد آنّ أنْ يستيقظَ
الموتى الضحايا
ويبرعموا في عالم الكلماتِ
دنيا من مرايا
يا أيها الشهداءُ عودوا.. إننا
في الانتظارِ المرِّ نمتشقُ الحنايا
عودوا فمازالتْ حلبجةُ مذبحهْ
ترنو إلى أفقِ الخلاصِ
يحولُ بينهما ضجيجُ الأسلحهْ
لا..لا تموتوا مثلما متم…
رجاءَ
استرجعوا ما راحَ من زمنٍ وجاءَ
إني على النيرانِ
أمشي كالمسيحِ
لم أحترقْ
أو يحترقْ في الروحِ ثارْ
وعلى يميني رقصُ نارْ
وعلى يساري عزفُ ريحْ
الموتُ يزحفُ في دمي
والأغنياتُ على فمي
لا لن أموتَ سدىً
وليسَ دمي طليلْ
سبحانَ ميلادي العظيمِ
من الرمادِ المستحيلْ
صوت:
يمشي على دمهِ
لا يرعوي أبدا
فليسَ يعرفُ غيرَ الموتِ
معتقدا
أصابعُ الشمسِ
تحسو من أشعَّتهِ
ويُسقطُ الليلُ من أحشائهِ
عقدا
آمنتُ بالدمِ
وهَّاجاً و مستعراً
تغدو الحياةُ بهِ
ياقوتةً وندى
21آذار 1988 عامودا
****
إنَّ شِعري يدورُ حولَ جمالِكْ
دونَ هذا الضياءِ شِعريَ حالِكْ
أستمدُّ الحياةَ من نبضِ وجهٍ
قمريٍّ ففيهِ كلُّ هلالِكْ
إن تكوني بعيدةً عن عيوني
فخيالي معطَّرٌ بخيالِكْ
****
كلُّ ثورٍ حيوانٌ
وليسَ كلُّ حيوانٍ ثوراً
…
كلُّ ثوريٍّ معارضٌ
وليسَ كلُّ معارضٍ ثوريّاً
…
دخل أحدهم المسجد وقت الصلاة وبيده ساطور وسأل:
من منكم مسلم؟ فنظروا إليه بهلع وصار كل واحد يريد الاختباء خلف الآخر أو تبتلعه الأرض حتى اختار واحدا وقال له :تعال أنت ..وأخذه خارجا وقال له :أرجو أن تذبح خروفي على الطريقة الإسلامية وبعد أن ذبحه قال له: أرجو أن تسلخه لي فقال الرجل: والله لا أعرف السلخ روح شوف غيري .. فعاد إلى المسجد وساطوره يسيل دما وسألهم من منكم مسلم؟؟ فأشار أحدهم إلى الإمام وقال :هذا أكبر مسلم هنا ..فما كان من الإمام إلا أن قال بهلع:
يعني إذا صليت فيكم ركعتين صرت مسلما ؟؟؟
…
يعني إذا كلُّ واحدٍ كتبَ جملتين عن الثورةِ صارَ ثائرًا؟؟
****
لا نجمةٌ
في ظلامِ القلبِ
تتَّقدُ
ولا جدارٌ
عليه القلبُ
يستندُ
ولا صباحٌ
أتى
في ظلِّ قافيةٍ
ولا رفيفُ صدىً
حتى ولا زبدُ
****
ما زلتُ منتظراً غدِي
أيطيرُ أيضاً من يدِي
لا لا زمانَ ولا مكانَ
لحزنيَ المتجدِّدِ
أنا خارجَ الأشْياءِ
داخلَ حلميَ المتجمِّدِ
إنْ شئْتِ رؤيةَ جثَّتي
زوري ولا تتردَّدِي
كمْ مِن هواءٍ تائهٍ
ودليلِ تيهي الأوحدِ
لا تُفسدي ما نحنُ فيهِ
منَ الأسَى ..لا تُفسدِي
فحياتُنا مرهونةٌ
بالموتِ ذاتَ تمرُّدِ
موتي لأجلي كيْ أموتَ
وألتقيكِ بمولدِي
هذا الصباحُ مشرَّدٌ
وقد التقى بمشرَّدِ
فاستقبلي حلمي إذاً
وضعيهِ فوقَ الموقدِ
لا تتركيهِ كما اللقيطِ
أمامَ بابِ المسجدِ
إنِّي هنا متوحِّدٌ
بخيالِكِ المتوحِّدِ
لا تفتحي للبحرِ
ذاكرتي ولا تتكبَّدِي
أنا راحلٌ من ها هنا
فلترحلي أو تقعدِي
موتانِ لي قد خيَّما
فوقي كأنِّي المعتدِي
أو هاربٌ من ظلِّهِ
حتى الهزيعِ الأجردِ
كلماتيَ الخرساءُ
مُطفأةُ السِّراجِ فأوقدِي
اكتظَّتِ الدنيا بموتي
يا لموتٍ سيِّدِ
****
أعيشُ قليلاً أموتُ قليلا
لأدفعَ عنِّي الزمانَ الثقيلا
فما زلتُ ما بينَ بينَ
أقيسُ القصيدةَ عرضاً وطولا
وما زلتُ أحفظُ قافيتي
وأشعلُ فيها السراجَ الضَّئيلا
كأنِّي ما زلتُ محتفظاً
بمصباحِ روحي لدربي دليلا
أيمكنُ لي أن أطيرَ غداً
ألم أكُ أجترحُ المستحيلا
أيمكنُ أن أقطفَ الما وراءَ
ألم أكُ أسعى إليهِ طويلا
أيمكنُ لي.. كنتُ فيما مضى
أغيِّرُ طبعَ الزمانِ البخيلا
فأصبحَ يثأرُ منِّي أنا
ويجعلُني تابعاً وذليلا
ألم أكُ عاصفةً من جنونٍ
أحقَّاً خسرتُ جنوني الجميلا
أرانيَ أخرجُ دونَ عصايَ
كأعمىً أسيرُ ملولاً ملولا
أراني أقلَّ اشتعالاً وكمْ
صرفْتُ على العالمينَ فتيلا
إلى غيْمتي لن أسيرَ غداً
لأنَّ غدي من زماني أُزيلا
****
سربٌ من الطيرِ
أم سربٌ من الشجرِ
في هذهِ الأرضِ
في قارورةِ الضَّجرِ
الروحُ واسعةٌ
والأرضُ ضيِّقةٌ
ولا مرورَ
لأحلامٍ ولا مطرِ
والقلبُ والحبُّ
في تيهٍ وفي سفرٍ
كلاهما تعبا
من وطأةِ السَّفرِ
أما الحياةُ
فتُخفي الموتَ في يدها
وتبسطُ اليدَ لي..
للطيرِ والشجرِ
حتى أصيحَ
وسمعُ الكونِ منغلقٌ
يا ليتني حجرٌ
في عصريَ الحجريْ
ما زلتُ منتظراً لصَّاً
ليسرقَ لي
قلبي
ويعصرُهُ في هالةِ القمرِ
الأرضُ تحتي
وتحتَ الأرضِ نافذتي
بعيدةٌ
عن جنونِ الغيمِ والمطرِ
جميل داري:
شاعر سوريّ