تمر ليبيا هذه الأيام بسلسلة من الأحداث المتسارعة، التي تزيد الوضع المتفجر - أصلا - تعقيدا وضبابية وخطورة متصاعدة؛ وفي كل مرة تمسك فيها برأس خيطٍ من الأحداث تهرب منك البقية، وتعيد المشهد إلى مربع التوقعات الصفر.
فبعد دخول الفرقاء في سباق مع الزمن لتحصيل تموقع على الأرض وتحصينه باستعمال مكثف للسلاح بأنواعه والإستقواء بالأجنبي بكل أجنداته، وبعد سعي محموم لفرض "اقتسام الكعكة" من القوى الدولية عبر الدفع إلى مفاوضات سقطت جميع مخرجاتها بفعل ذلك السلاح نفسه، وبعد حملة "التخويف" غير المسبوقة التي شنتها أجهزة الدعاية السياسية الغربية بقرب غزو ليبيا واحتلال أراضيها وتقسيم مناطقها ومواجهة الإرهاب فيها ...الخ، اتفق الليبيون على أرضية سياسية بمباركة دولية واسعة،[1] كان أول مخرجاتها مجلس رئاسي ممثل لمختلف المناطق ومختلف الحساسيات السياسية والأيديولوجية يقوده فايز السرّاج ويتركب من أربعة نواب له يمثلون مختلف المناطق الليبية (وهم فتحي المجبري، وأحمد عمر معيتيق، وموسى الكوني، وعبد السلام كاجمان) إضافة إلى عضوين آخرين (محمد عماري زايد، وأحمد حمزة مهدي). أعلن السرّاج عن حكومته الأولى يوم 19 جانفي 2016، وقد سقطت لعدم نيلها ثقة برلمان طبرق المعترف به دوليا، ثم عن حكومة ثانية في 14 فيفري لم يتمكن بعد من عرضها على البرلمان، وتضم 18 وزيرا. وبعد تجاذبات عديدة رفضت حكومة طرابلس الاعتراف بها، ثم تبعتها حكومة طبرق في الرفض، بالرغم من أن عديد الفصائل من هذا الفريق أو ذاك كان أعلن عن قبوله للتسوية وانخراطه فيها.[2]
وكان نتيجة ذلك الرفض مع تصاعد الضغط الدولي بضرورة مباشرة حكومة السراج لمهامها انطلاقا من طرابلس، الإعلان عن غلق المجال الجوي الليبي، وإصدار بنغازي بيانا ترفض فيه تسلم حكومة الوفاق لمهامها.
فما هي سياقات الدخول "المفاجئ" للمجلس الرئاسي الليبي إلى طرابلس بالرغم من ذلك الرفض المعلن ؟ وما تداعياته على استقرار الوضع (أو تأزيمه) في ليبيا في ظل الانقسامات المتمترسة على الأرض وراء ترسانة من الأسلحة المتنوعة ؟ وما هو تأثير وجود حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في تغيير خارطة المشهد السياسي والعسكري في ليبيا، وقدرتها على حل مشاكل الليبيين المعيشية والاجتماعية ؟
دخول السراج إلى طرابلس: الرسالة – الصدمة
لم يكن أحد يتوقع أن يُقدم فايز السرّاج رئيس حكومة الوفاق الوطني على خطوة "الاختراق الخشن" والدخول إلى طرابلس رغم كل التهديدات التي وجهتها له الفصائل العسكرية المسيطرة على الأرض، والتي وصلت إلى غلق المجال الجوي الليبي في وجهه. [ 3]
في يوم الأربعاء 30 مارس، وصل السرّاج وبعض أعضاء حكومته قاعدة بوستّة البحرية (طرابلس) على ظهر قطعة بحرية ليبية (السدادة).[4] وأعلن في مؤتمر صحفي – حال وصوله – عن مباشرة حكومة الوفاق الوطني لأعمال تنفيذ بنود الاتفاق السياسي انطلاقا من طرابلس، وأن هذه الأخيرة ستسعى إلى تحقيق المصالحة الوطنية وعودة النازحين؛ وبعد أن شكر لجنة الترتيبات الأمنية وعناصر وزارة الداخلية على ما قاموا به لاستقباله، أعلن عن "أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وكل ما يخالفها فهو باطل"، ما اعتبره المحللون رسالة واضحة لترتيبات "خفية".
تصاعدت نبرة التوتر في طرابلس من خلال حدة التصريحات المعادية لحكومة السراج، وعلى رأسها تلك الصادرة عن خليفة غويل رئيس حكومة الإنقاذ غير المعترف بها دوليا (ويُصطَلَحُ على تسميتها – تجاوزا – حكومة فجر ليبيا)،[5] وعن مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني الذي ألقى مساء الأربعاء 30 مارس كلمة ندد فيها بدخول المجلس على ظهر "باخرة أجنبية" ورفض وجودها واشترط لذلك شروطا،[6] إلى جانب رفض حكومة عبد الله الثني الخاضعة لبرلمان طبرق لها. ولكن عضو مجلس الدولة عبد الرحمان السويحلي اعتبر من يعرقل تطبيق الاتفاق هم مجرد أقلية (ويعني بذلك نوري أبو سهمين وخليفة الغويل) ودعاهم إلى التسليم بما توافق عليه الليبيون. تراجعت حدّة التهديدات الأمنية بسرعة كبيرة، وانسحب المسلحون من كثير المواقع داخل العاصمة طرابلس، وبدأ التأييد الداخلي والخارجي يتوالى سريعا على الحكومة، التي تعتبر نفسها، ويعتبرها المنتظم الدولي، السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا من وكيف أُعْطِي الضوء الأخضر لحكومة السراج بإحداث واقع جديد على الأرض وتسيير مهامها عمليا من طرابلس رغم التهديدات الجدية؟
تؤكد المعلومات المتوفرة أن حكومة التوافق الوطني قامت في الأسابيع الأخيرة بجهود كبيرة لإقناع مختلف الفرقاء بضرورة التوصل إلى مصالحة واسعة وتوافق على إكمال المسار السياسي دون إقصاء أو تقسيم. وكان للمجتمع المدني والشخصيات الأهلية الدور الأبرز في المفاوضات وتقريب وجهات النظر. ولعل أبرز محطاته كان استقبال السراج لخليفة حفتر في تونس في جو من التكتّم الكامل أسبوعا قبل دخوله طرابلس.
وتكشف المعلومات بعد ثلاثة أيام من استقرار المجلس الرئاسي في طرابلس عن عديد النقاط الحاسمة التي مكنت السراج من اتّخاذ تلك الخطوة:
- اللقاء الثلاثي الذي جمع في الجزائر مسؤول أمني جزائري رفيع والشيخ راشد الغنوشي وعبد الحكيم بلحاج
- ترتيبات اللجنة الأمنية التي شارك فيها مقربون من الشيخ الصادق الغرياني[7] والجماعة الليبية المقاتلة[8] والإخوان المسلمون[9] وتنسيقية ائتلاف 17 فبراير،[10] إلى جانب الدور المركزي الذي لعبته كتيبة "النواصي" التابعة لوزارة الداخلية، والتي تعتبر حجر الزاوية في القوة التي اعتمد عليها السراج على الأرض.[11]
- انضمام قبائل الجهة الغربية إلى حكومة التوافق منذ دخولها طرابلس، وإعلان بلديات 10 مدن ساحلية في اجتماع عقدوه في صبراتة (70 كلم غربي طرابلس) عن دعمها لتسلم الحكومة لمهامها.[12]
- إعلان جهاز حرس المنشآت النفطية وضع كافة الموانئ التي يسيطرون عليها تحت تصرف حكومة الوفاق، وأضافوا إن موانئ البريقة والزويتينة وراس لانوف (وتبلغ قدرتها التصديرية حوالي 500 ألف برميل يوميا) لن تصدّر إلا لصالح هذه الحكومة.
- دعوة مجلس حكماء ليبيا في اجتماع له إلى ضرورة إسناد مؤسسات البلد، ودعم الحكومة الشرعية الجديدة
- لقاء مدير البنك المركزي الليبي فايز السراج وإعلان دعمه له
تسارع مظاهر الدعم واتساع رقعته في مختلف المناطق الليبية، أصاب المعارضين للحكومة بالدهشة، ما دفع بخليفة الغويل إلى الانكفاء إلى مدينته (مصراتة)[13]، فيما اضطر بعض وزرائه إلى التواري. أما رئيس المؤتمر الوطني العام فقد عاد إلى بلدته (زوارة) للاحتماء بها. أما حكومة الثني فقد سارعت بالاجتماع في طرابلس يوم 30 مارس وأصدرت قرارا لتنظيم بيع النفط وتصديره، رأى فيه البعض ارتباكا في الرد على قرار جهاز حرس المنشآت النفطية. وما زاد من اضطراب موقف المعارضين على الأرض دخول أعضاء المجلس في مفاوضات مع بعض وزراء حكومة طرابلس الذين عبروا عن استعدادهم لتسليم مهامهم،[14] وبيان المؤتمر الوطني العام الداعي إلى التهدئة وحل الإشكاليات القائمة بالتعاون والهدوء،[15] ولقاء بعض قادة الجيش (حكومة طبرق) بالمجلس الرئاسي.
مآلات المشهد الحالي والسيناريوهات الممكنة
بالرغم من دوائر التأييد الكبيرة التي حُضِيَتْ بها حكومة التوافق على المستوى الداخلي وفي الإقليمي والدولي، إلا أن عقبات كثيرة لا تزال تعترضها أمام بسط هيمنتها باعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة المعترف بها. فرئيس برلمان طبرق لا يزال يتلكأ في عقد جلسة للبرلمان لمنح الثقة للحكومة الجديدة، بالرغم من إمضاء ما لا يقل عن 120 نائبا من ذلك البرلمان على بيان دعم السراج. وهو ما يدفع بالحكومة إلى التهديد بتجاوز البرلمان وأداء القسم أمام المجلس الرئاسي. كما لا تزال بعض الفصائل المسلحة في طرابلس تتمترس وراء الغرياني وحاضنته الشعبية في تاجوراء (منطقة في طرابلس) وبعض السياسيين، ومن بين هؤلاء كتيبة البركي والكتائب التي يقودها صلاح بادي.
تطور الأحداث الأمنية سيبقى رهين التفاوض مع الشيخ الغرياني من جهة ومدى قدرة حكومة السراج على التفاعل مع ما يثيره من تساؤلات واشتراطات وضمانات دستورية، خاصة وأن بقية المعترضين في حكومة طرابلس قد فقدوا الدعم السياسي المناطقي والدعم العسكري، إضافة إلى العقوبات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي على كل من الغويل وأبو سهمين وعقيلة صالح، وتلويح مجلس الأمن الدولي باتخاذ نفس التدابير.
يبقى العقبة الكبيرة الأخرى في حكومة الشرق (بنغازي) مصير المفاوضات الجارية مع خليفة حفتر، وزير الدفاع في حكومة طبرق الذي أزيح من تركيبة حكومة الوفاق الوطني، والذي يبحث – بحسب بعض المحللين – عن ضمان عدم تتبعه دوليا، وعدم ملاحقته محليا، وهو أمر لا زال يشوبه الكثير من الغموض والتكتم.
وإذا تمت تلك الخطوات دون خسائر كبيرة ودون إراقة دماء، فيمكن القول إن مشروع الإمارات – مصر قد خسر جولة من الصراع الدائر حول ليبيا، وأن شبح التقسيم (والفَدْرَلَة) بدأت تخفّ وطأته عنها.
طبعا يبقى المشكل الأمني الأكبر في ليبيا، والذي تتقاطع عنده الكثير من الأوراق، هو محاولة داعش بناء قاعدة لها، بالرغم من أن بعض الليبيين يؤكدون أن بقاءها مستحيل إذا قرر الليبيون الاجتماع على مشروع وحدة وطنية أدنى، ويضربون على ذلك مثال درنة، التي استطاع سكانها – بدون أي دعم من خارجها – تحرير مدينتهم من الدواعش. بل لعل وجود الإرهاب الداعشي مرتبط – بشكل من الأشكال – بملف تواجد القواعد العسكرية على الأراضي الليبية.[16] وسيكون هذان الملفان أكثر الملفات اشتعالا على طاولة حكومة السرّاج، لتأثيرهما المباشر على مستقبل المشروع السياسي وتداعياته على الإقليم.
خاتمة: هل يتنفس الإقليم الصعداء
لا شك أن التداعيات التي سيتركها مصير حكومة التوافق الوطني على الإقليم في الأسابيع القليلة القادمة حاسمة ومصيرية (في الاتجاهين). فبعد تهديد داعش بالاستهداف المباشر لحكومة السراج، تحرك 15 ألفا من القوات العسكرية الجزائرية بقيادة قائد الأركان لتمشيط وتأمين الولايات الجنوبية الثلاثة على الحدود الليبية. كما أن تونس التي شجعت الحكومة على التحول إلى طرابلس وأعلنت دعمها لها بشكل صريح عينها على الإرهاب الذي يمكن أن يعاود الظهور كما في بن قردان، والأخرى على ما يمكن أن توفره لها آفاق إعادة إعمار ليبيا في صورة اكتمل مسار المشروع السياسي. أما الحدود الجنوبية لليبيا، فقد كثفت فرنسا تحركاتها (ضغوطها) في كل من النيجر ومالي تحسبا لأي تطورات محتملة. تبقى مصر التي راهنت على أطراف من نظام القذافي والقبائل التي كانت موالية له، إضافة إلى الفريق خليفة حفتر وتواجدها المباشر (بكل أجهزتها) داخل التراب الليبي في الجهة الشرقية، فإنها ستحاول مسايرة إعادة بناء الدولة الليبية مع البحث على الحفاظ على بعض الامتيازات، في وضع داخلي (اقتصادي، سياسي، أمني) لا تُحسد عليه.
الهوامش
[1] وقع الإعلان عن الاتفاق السياسي الليبي يوم 17 ديسمبر / كانون الأول 2015 بمدينة الصخيرات بالمغرب الأقصى
[2] 100 نائب في برلمان طبرق من بين 198 أعلنوا عن تأييدهم لمخرجات اتفاق الصخيرات منذ البداية، وكذا بعض فصائل فجر ليبيا في طرابلس
[3] أغلقت سلطات طرابلس صباح يوم الاثنين 28 مارس، وقبل ساعات من المحاولة الثانية، مطاري معيتيقة ومصراتة، لمنع وزراء حكومة الوفاق الوطني، برئاسة السراج، من دخول العاصمة الليبية. واعتبرت الخارجية الأمريكية إغلاق الأجواء محاولة لمنع تنفيذ الاتفاق السياسي. http://www.akhbar-libya.ly/libya-news/42308.html
[4] http://www.lemonde.fr/international/article/2016/03/31/climat-de-tensions-a-tripoli-apres-l-arrivee-du-gouvernement-d-union-nationale_4892871_3210.html
[5] اتهمت حكومة الانقاذ البعثة الأممية بعدم الحياد، وأكدت رفضها لحكومة الوفاق، بل إن رئيسها خليفة غويل دعا أعضاء المجلس الرئاسي "إلى تسليم أنفسهم أو مغادرة البلاد فورا". هدوء-نسبي-في-طرابلس-بعد-وصول-حكومة-الوفاق/http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/3/31 ، وحمّل النائب الثاني لرئيس المؤتمر الوطني العام عوض عبد الصادق أعضاء المجلس الرئاسي المسؤولية القانونية لدخولهم خلسة وبطريقة غير شرعية وغير رسمية.
[6] https://www.facebook.com/tanasuhtv/?fref=nf
[7] تولى عبد الرحمان قاجه المسؤول المالي لدى الشيخ الصادق الغرياني الإشراف على ملف التفاوض مع التشكيلات المسلحة في عدة أحياء من طرابلس وفي مقدمتها سوق الجمعة وتاجوراء وزاوية الدهماني. وينص مضمون الاتفاق على أن تتولى حماية مقر المجلس الرئاسي وعدم التعرض له، مقابل التنصيص على براءتها من كل ما نسب لها من تجاوزات سابقة
[8] تولى عبد الحكيم المصري المسؤول المالي في الجماعة الإشراف على ملف تأمين إسكان وإقامة المجلس الرئاسي في طرابلس
[9] تكفل مصطفى التاغدي وعمر رحومة الشكشوكي القياديان في تنظيم الإخوان المسلمين بملف الاتصالات والعلاقات العامة
[10] أسند الملف الإعلامي إلى حسام الزقعار عضو التنسيقية
[11] تولى بسام الشريف أحد منتسبي الكتيبة مسؤولية الأمن الرئاسي، وتأمين القاعدة البحرية التي يقيم فيها المجلس من الخارج، فيما تؤمنه البحرية من الداخل
[12] وعي بلديات زليطن ورقدالين والجميل وزوارة والعجيلات وصبراتة وصرمان والزاوية الغرب والزاوية والزاوية الجنوب
[13] يقال إن وفدا من قبائل مصراته أقنعه ليلة 31 مارس بمغادرة طرابلس
[14] http://lpc.ly/tv/ حكومة-الإنقاذ-الوطني-تؤكد-إلتزامها-بم/
[15] http://lpc.ly/tv/ المؤتمر-الوطني-العام-يؤكد-دعمه-للحوار/
[16] http://rawabetcenter.com/archives/21779