[عندما غادر الرئيس السابق الدكتور منصف المرزوقي قصر قرطاج إثر هزيمته الانتخابية في شهر ديسمبر 2014، كتب نصًا بديعا أخضع فيه تجربته الشخصية التي حملته إلى سدّة الرئاسة لمبضع التشريح والتأمل، مُبحرا في استكشاف دروب النفس البشرية وهي تواجه مِحن الحياة في تموّجها. قرأتُ لسياسيين كُثر في بلادي كتبوا عن أنفسهم وعرضوا لتجاربهم، ولكني أُجزمُ أني لم أقرأ نصا نقديا عميقا يُخضع الذات إلى أشدّ آليات المساءلة، في جُرأة وتجرّد، مثلما قرأت نص ‘‘لعنة القزم ألبيريتش’’ الذي كتبه المرزوقي أشهر قليلة فقط بعد مغادرته للرئاسة. ولكن النص، مع الأسف الشديد، لم يُحضَ بما يستحق من الإشادة والتوقف عنده.
ما الغرابة في ذلك وقد أجابك النص عن حيرتكَ قبل أن تقرأه ؟ سألتُ نفسي.
أعود إلى النص اليوم مترجمًا، قبل أن أتوقف عنده مفككا ومحللا.]
المترجم
ريشارد فاغنر واحد من أعظم الموسيقيين الغربيين الكلاسيكيين. أن تلج عالمه الإبداعي أمرٌ غير يسير، ولكن كم هو سحري أنْ تسافر في دروب أروع ما أبدعه العقل البشري وأكثره إثارة للمشاعر.
كنتُ في يوم من الأيام، مدفوعا بحب الإطّلاع، قد اقتنيتُ تذكرة لدخول مسرح الأوبرا "غارنيي" بباريس، لحضور واحدة من أشهر مسرحياته الغنائية: "الفالكيري". وخرجت منها وأنا لا أنبس ببنت شفة، صَعِقٌ، مُنذَهلٌ، كمن لم يفهم شيئا، بل وغير مستمتع حتى.
يمكن أن يبدو لنا التلاعب بالأصوات في الموسيقى الغنائية الأوروبية مُصطنَعًا، مُغرَقًا في التكلُّف، بل ومثيرا للسخرية أحيانا. وبالنسبة لعربي مثلي تعوّدتْ أذنه على أغاني أم كلثوم، وفيروز، وصليحة، وعبد الوهاب أو الشيخ إمام، يمكن أن تكون الأوبرا الغربية – فما بالك بالأوبرا الصينية – جلسة حقيقية للتعذيب. وأحسب أن الأمر نفسه سينتاب أصدقاءنا الغربيين عندما يستمعون لأول مرّة ما يسمّونه "الهتافات الشرقية".
لا بد من اجتياز هذا الحاجز الثقافي، والإصرار على ذلك، لأن الثمرة تستحق المجاهدة. قررتُ إذًا القيام بـــ"حملة ثقافية"، لغزو مُرتقى فاغنر بشكل من الأشكال. وكما هي الفتوحات ذات المخاطر الكبرى والفوائد العظيمة في الفضاء الفيزيائي، فإن مغامرة استكشاف موسيقى بشر آخرين وأساطيرهم تستوجب التحضير الدقيق والتركيز الشديد.
في البداية لا بد من التعرّف على شخصية فاغنر، وهو لا شك غير محبوب بسبب معاداته للسامية، وانتهازيته، وهوس العَظَمَة الذي كان يتلبّسُهُ. ولكن الأعمال الإبداعية لا بد أن تُتناوَلَ دائما باستقلال تام عن النظرة التي نكوّنُها عن المبدِع.
ومن بين أعماله الوفيرة، اخترتُ الثلاثية الشهيرة كساحة استكشاف: "خاتم شعب نيبلونغن" (der Ring Des Nibelungen1) ، وهي تنقسم إلى أربعة مسرحيات غنائية: "ذهب نهر الراين" (das Rheingold)، و"الفالكيري" (die Walküre2) و"سيغفريد" و"غسق الآلهة" (Götterdämmerung3).
الخطوة الثانية تمثلت في ضرورة "الهجوم" على الكتاب الذي يسرد وقائع تلك الأوبرا الرباعية، والتاريخ الذي ترتكز إليه. هنا نجد أنفسنا وقد توغلنا تماما في المثولوجيا الجرمانية المكثفة، حيث مخاطر الضياع متوفرة جدا. ولاختراق أروقة موسيقى في غاية الثراء والتعقيد، أسلمتُ قَوَدي لسلسلة من أربعة أقراص ممغنطة تهديني الطريق وتُعرّفني خباياه، (تماما كمن يفسّر حلبة الملاكمة للجَهَلَة).
كتاب "الأوبرا المحكية، تفسير الرباعية" (Opéra conté, commentaire de la tétralogie) لبيار ميشو، انطلاقا من مقتطفات بإدارة السير يورغ سولتي وقراءة جيرارد كورشال. ثم واجهتُ العمل نفسه، الذي اقتبسه للمسرح باتريس شيرو Patrice Chéreau ، وكانت الفرقة بقيادة المايسترو الفذّ بيار بوليز Pierre Boulez .
شاهدت هذه الأوبرا الرباعية مرات ومرات على جهاز الفيديو، وفي كل مرة كان انبهاري يزداد ويكبر.
لم يكن فاغنر مؤلفا موسيقيا عظيما فحسب؛ بل كان مفكرا يكتب نصوص مسرحياته بنفسه، وكان له مفهومه الخاص حول العالم والإنسان والسلطة، مفاهيم غير مُطَمْئنة بالمرّة.
الدسيسة متعددة الطبقات التي تتمحور حولها هذه الأوبرا تدور حول القزم ألبيريتش الذي سرق ذهب [نهر] "الرين" (Rhin) من حوريات الماء، وصنع لنفسه خاتما مكّنه من قدرات مطلقة. ولكن السارق يتعرض للسطو من سارق أكبر منه: الإله أودين شخصيا.
وفي اللحظة التي جُرّد فيها من القطعة موضوع الرغبة الجامحة والمطلقة، من بني آدم ومن الآلهة سيان، أطلق ألبيريتش لعنته المشهورة: "[اللهم] ارم كل نفس تتابع هذا الخاتم بعذاب الرغبة الأبدي، واجعل كل من يحوزه مسكونًا ببلاء القلق الدائم"
أصابت مني هذه الجملة مقتلا. إنه النذير !
****
"التركيبة" الأساسية لتلك اللعنة هو المحنة والشقاء. يتعلق الأمر هنا بتجربة ذاتية ذات وجهين: الآلام الجسدية و / أو النفسية – التي يلحقها المرء بنفسه، أو يلحقها العالم بك، أو تلحقها بالآخرين – من جهة، واستقرار تلك التجربة في التكرار وفي الزمن الطويل. لا يتعذّب الطفل بالصفعة، خاصة إذا كان يستحقها، بل بالتجاوزات المستمرة أو بالإهمال العاطفي المزمن. لا نشقى بنوبة من آلام الأسنان بل بمرض السكّري المتقلب، أو بداء الصرع الذي تفشل كل الأدوية في التحكم فيه.
المكوّن الآخر للعنة هو السلطة، سبب آخر للعذاب، ولكنه ليس الأشد وطأة.
لقد عشتُ استكشاف هذه الأوبرا الرباعية منذ بضع سنوات، في لحظة لم أكن أتخيل أن لعنة القزم كان يمكن أن تشدّ اهتمامي.لم أكن مسكونا بشهوة السلطة بشكل مخصوص، لأنني كنت على يقين بأنني سألاقي حتفي وأنا معارض للسلطة، تماما كما كان أبي، وأنني سأدفَنُ مثله في غير موطني الأصلي.
وفجأة، وجدت نفسي محمولا بصدفة التاريخ إلى قصر قرطاج، حيث تمكّنتُ كل صباح خلقه الله في هذه السنوات الثلاثة الطويلة، من تجريب قساوة تلك اللعنة ومتعلقاتها.
لم يكن السبب الرئيسي لتلك العذابات ما كنت أتعرض له من هجمات متكررة على شخصي. فقد كانت هي نفسها في عهد الدكتاتورية، تصدر عن نفس الأشخاص، وفي نفس وسائل الإعلام، منذ ما لا يقل عن عقدين من الزمن. وقد تعودت على سماعها، وواجهتها بالإهمال التام (وليس مجرد التظاهر بإهمالها). كان المقرّبون مني أحيانا يُسِــرّون لي في أذني ثائرين: كيف يمكن أن تسمح بذلك، وخاصة من بعض الأشخاص ؟ هل أعاقبهم ؟ ولأي غرض ؟ إن الحقد، كما الغيرة، هو سُــمٌّ نفسي يقضي على روح الحاقد، لا على روح المحقود4. فالحقد جريمة وهو في نفس الآن عقاب تلك الجريمة. لما الانتقام من شخص ينتقم من نفسه دون أن تُحرك بنانك ؟ التأثير ؟ أن تثق في ذكاء الناس وفي الزمن وحده الكفيل بإعادة الاعتبار لكل الحقائق.
كلا. ما كان يؤرقني صباح مساء هي الحالة المُزرية التي تركت دكتاتورية غبية وفاسدة البلد عليها: وضع سيئ لأنظمتنا البنكية والقضائية والتعليمية والصحية، وخاصة نظام قيمنا.
كان مصدر عذاباتي أيضا مرحلة انتقالية لم تتوقف فيها المصائب، والأخطاء، والفشل، والإحباط، والمخاطر. قليل من التونسيين كانوا يعلمون أن البلد كان يتأرجح – بين نهاية شهر جويلية ونهاية شهر سبتمبر 2013 – على حافة الهاوية. ليالي طويلة من الأرق.
ما كان يعذّبني خاصة البؤس الذي كانت تعيشه أريافنا ومدننا الكبرى، والضائقة التي كانت تعيشها عائلات الشهداء، وآلام عائلات جنودنا وقوات أمننا الذين ذهبوا ضحية التفجيرات الإرهابية، والاغتيالات المتكررة أو التي كان يُخشى وقوعها التي تستهدف رجال السياسة، والخصومات المستمرة حول كل شيء وحول اللاشيء.
***
إن خصيصة المجال السياسي أنه – خلاف كل المجالات الأخرى – يضعك في مواجهة كل الطيف الإنساني وكل المشاعر التي يستطيعها الإنسان.
غالبا ما نظرتُ إلى تراجيدية – كوميدية الحُكم بعين الطفل المنبهر والمتطفل الذي لم ينطفئ يوما بداخلي، وهو ما مكّنني من الانتباه إلى أن لعنة ألبيريتش لا تصيب القادة فحسب، كبارهم وصغارهم، ولا تعذّب كل من يريد أن يصير بأي ثمن خليفة مكان الخليفة فقط.
لم أرى حولي غير شباب قلق جدا من بطالة لا يرى نهايتها، وبرجوازية قلقة من "الإسلامي الذي يهاجمها وسكّينه بين أسنانه"، وإسلاميون مرتعبون من الشعور بالخوف من عودة الدكتاتورية، وطبقة وسطى قلقة من خوف الفقر، وجهات مقصية تعذّبها الفاقة والغضب والإحباط، وشخصيات رسمية منزعجة من مشاكل لا تجد لها حلا، ورجال أعمال قلقون من الإضرابات التي لا تنتهي، وعمّال قلقون من الانهيار المستمر لقدرتهم الشرائية .... وما نسيته أكثر.
كما التقيتُ أيضا من لا مفر منهم من المتهكّمين والساخرين وأصحاب النقد الساخر والماكيافليين وغيرهم من الحاقدين. مساكين هم ! إنهم من بين الجميع أكثر الناس عذابا برغباتهم غير المشبَعة، وإحباطاتهم المختلفة، وأحقادهم النتنة، وإنّيتهم المضخّمَة المصابة بالخيبة من جراء حياة لم تف بوعودها تجاههم.
أرى سؤالا فخًّا يرتسم بعدُ في ذهن هؤلاء وأولئك: بلى، ولكن أخبرنا عن مشاعر القلق من فقدان السلطة. الأمر مُعقّدٌ. لا شك أننا منزعجون من الأفكار السوداء، المكررة للأخطاء، والفشل، والفرص الضائعة، والأحلام التي بقيت في طور الرسم، والغيظ من الهزيمة، ومن أسبابها المتعددة والمختلفة، ومنها السلوكات المتناقضة التي لا نستطيع لها ردا ولا نقبل على أنفسنا محاكاتها. ولكننا من ناحية أخرى مبتهجون ! أخيرا سننعم بنوم عميق من جديد وعلى طول الليالي.
قليل من الناس يدركون ثمن تلك الامتيازات الحقيقية والافتراضية التي توفرها السلطة. أجد نفسي أحيانا وأنا أبتسم، عندما أتذكر منافسيّ الذين اقتحموا القلعة أخيرا. لا شك أنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم تحوّلوا من محاصِرين إلى مُحاصَرين، لأن الإنسان كما أنه محكوم بالقلق من الموت، فإن السلطان محكوم بالحصار وبسرعة الزوال.
***
(يتبع)
1 ) "شعب أقزام الضباب" في الأسطورة الجرمانية، هم أقوام من الأقزام الأغنياء جدا، بما كانت تجود به مناجم الجبال التي يعيشون فيها. أنظر
http://fr.wikipedia.org/wiki/Nibelungen#cite_ref-1 [المترجم]
2 ) "الذي يختار الضحايا" المقدّمين للقتل، في الأسطورة الشمال – أوروبية، مقاتلات (برتبة آلهة صغرى) تشارك في المعارك في خدمة "أودين" إله الآلهة، محلقة فوق المقاتيلين، لتختار من يجب عليه الموت والخلود عند "أودين". أنظر: http://fr.wikipedia.org/wiki/Valkyrie [المترجم]
3 ) Le crépuscule des dieux : غروب الآلهة، هي الجزء الرابع والأخير من أوبرات فاغنر الدرامية؛ وتتناول ميثولوجيا شمال أوروبا حول المعركة النهائية بين الآلهة والعمالقة. أنظر: http://fr.wikipedia.org/wiki/G%C3%B6tterd%C3%A4mmerung [المترجم]
4) يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 3 ص 181: "قال الغزالي: (للمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة: أحدها أن يستوفي حقه من الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان، وهو العدل. والثاني، أن يحسن إليه بالعفو والصلة، وذلك هو الفضل. والثالث، أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور وهو اختيار الأراذل، والثاني هو اختيار الصديقين، والأول هو منتهى درجات الصالحين)