منذ الظهور التلفزيوني للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في بداية شهر يونيو، معلنا الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، هيمنت مسألة الحكومة المزمع تشكيلها على السجال السياسي التونسي. تطورات القضية ودواعي الدعوة إلى “حكومة وحدة وطنية” والاختلاف بشأنها، هي أبعاد لخصت الوضع السياسي في تونس، واختزلت زوايا النظر لا إلى التركيبة الحكومية فقط، بل أيضا إلى المضامين التي تمثلها الدعوة ومراميها ومآلاتها
ارتفع نسق السجال على خلفية انطلاق الحوار حول حكومة الوحدة الوطنية، أمس الأربعاء، وهو حوار ضم أحزاب الائتلاف الحاكم، وبعض الأحزاب من خارج الائتلاف، فضلا عن اتحاد الشغل واتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين. سجال عاد إلى طرح سؤال أولي ومبدئي: هل يتم النقاش على أرضية الأسماء أم على أرضية البرامج؟
عدم توصل اجتماع الأربعاء إلى نتيجة تنهي ولادة عسيرة لحكومة قال الداعون إليها إنها ضرورة، لم يحجب الأسئلة الحقيقية حول المضامين وخلفيات الدعوة إلى حكومة جديدة بعنوان براق هو “الوحدة الوطنية”.
أولى نقاط التحفظ السياسي الواسع على “حكومة الوحدة الوطنية” أنها ولدت من تصريح رئاسي أدلى به الباجي قائد السبسي بداية الشهر الجاري، وهو تحفظ تفرع إلى نقاش دستورية الاقتراح وقانونيته ومدى تطابقه مع صلاحيات الرئيس. المعلم الثاني لسيل التحفظات التي أبدتها أحزاب وشخصيات سياسية مفاده أن النقاش حول حكومة الوحدة الوطنية استحال نقاشا حول الأسماء المقترحة لخلافة الحبيب الصيد، وهو ما عُدَّ تمييعا سياسيا للقضية، بمعنى إهمال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي تمر بها البلاد، والاندفاع نحو نقاش حول اسم رئيس الحكومة الجديد، وآليات استقالة الحبيب الصيد أو إقالته، ونصيب كل حزب سياسي من الحقائب الوزارية، وغيرها من الخلافات لإجرائية.
الوضع الذي تمر به البلاد، وتوقيت الدعوة إلى حكومة الوحدة الوطنية، ومواقف المرحبين بالدعوة، كما القضايا التي تم نقاشها قبل وأثناء حوار الأربعاء، عوامل متضافرة تشي بأن حكومة الوحدة الوطنية هي من قبيل الحق الذي أريد به باطل، أو هي دعوة ظاهرها انتشال البلاد من التردي الذي وصلت إليه، وباطنها ترتيب البيت الداخلي للحكم القائم وتطعيمه بوجوه جديدة وتوسيع قاعدته، من باب “تأميم الأرباح وخوصصة الخسائر”، ولا شك ان الخسائر فادحة ولا تحتاج أدلة وبراهين، إذ يكفي الاطلاع على الوضع الاقتصادي المتأزم (تضخم غير مسبوق وانهيار كارثي لقيمة الدينار التونسي مقابل العملات الأجنبية وغلاء الأسعار وانهيار للقدرة الشرائية) لتبين أن تونس تعيش أزمة عميقة وشاملة.
كل تعاط مع أزمة هيكلية يتطلب الإقرار بوجودها، ويفترض تشخيصها وبحث دواعيها وحدودها وآثارها الممكنة، ثم الشروع في التصدي لها وفق برنامج محدد واضح المعالم. أما الإقرار بوجود الأزمة فهو مثار اختلاف، أو هو إقرار يتفاوت حسب موقع الحزب أو الجهة من السلطة، فلئن اعترف الرئيس التونسي بوجود أزمة، إلا أن إقراره كان تبريريا قدم في سياق دفاعه عن فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي أطلقها بداية شهر يونيو، لذلك كان اعترافا تبريريا موسعا دائرة الشركاء في صنع الأزمة، مع توجيه ثناء لأداء حكومة الحبيب الصيد.
تشخيص الأزمة سيكون من جنس القائم به، أي أن الائتلاف الحاكم لن يكون بوسعه تقديم تشخيص يأتي على مختلف زوايا الأزمة لأسباب تبدأ من كون التشخيص الحقيقي سيكون مرادفا للاعتراف بالفشل الذريع، وأيضا لأن قراءة حقيقية للأزمة ستؤدي إلى التساؤل حول جدوى الخيارات الاقتصادية والسياسية المنتهجة من قبل الائتلاف الرباعي الحاكم بقيادة النهضة والنداء، وهي خيارات اقتصادية ليبرالية مملاة في أغلبها من الجهات الدولية المانحة، ومترتبة على الهرولة نحو التداين بدل البحث عن حلول جذرية للخروج من عنق الزجاجة.
أما برنامج إنقاذ البلاد، فقد استعيض عنه بإطلاق الدعوة إلى “حكومة الوحدة الوطنية”، وهي ممارسة معتادة في كل العالم ولا يمكن رفضها لذاتها، إلا أنها تتحول إلى حرث في واد غير ذي زرع إن تحولت إلى حل تعويمي لأزمة عميقة تحتاج حلولا عميقة.
الأبعاد المشار إليها تركت الباب مواربا أمام قراءات ترى المشهد السياسي التونسي موسوما بالخلافات الانتخابوية المبكرة، ومشوبا بالخلافات المشخصنة، (جدير تأمل ما يروج حول موقف الباجي قائد السبسي ونجله من الحبيب الصيد)، فضلا عن سعي الأحزاب السياسية الكبرى إلى المزيد من تمتين مواقعها قبل الانتخابات البلدية القادمة، إضافة إلى دور الجهات الأجنبية المالية والسياسية في رسم مستقبل المشهد السياسي التونسي.
السجالات التي تعم الساحة السياسية التونسية هي سجالات الهامش التي أهملت قضايا المتن. الهامش الانتخابي وسباق تدعيم المواقع انتصرا على أولوية التصدي للأزمة.
حوار الأربعاء الذي “قُدّر” له ألا ينجح في صنع حكومة قيل إنها ستكون حلا لأزمات البلاد، بين أن حكام البلاد يديرون ظهورهم لأزمات البلاد. وإن “قُدّرَ” لحكومة الوحدة الوطنية أن تتشكل بهذه المقاييس فإنها ستكون حكومة القفز على المشاكل وتأجيلها.