في شهر يناير من عام 2015، اُقتُرِح فجأة اسم الحبيب الصيد لتشكيل الحكومة التونسية بعد الانتخابات، وتكمن علة المفاجأة في أن اسمه لم يكن مطروحا أو متداولا أو منتظرا، سارعت النهضة إلى الترحيب بالاسم والحكومة رغم ضعف تمثيليتها، ورفضت جهات عديدة الاسم والترشيح ودواعيه.
بعد عام ونصف العام على ظهور اسم الحبيب الصيد، تراجع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن رهانه على الصيد وحكومته، وأيضا على الدواعي التي جعلته يُقدم على ترشيحه ليطلق مبادرة “حكومة وحدة وطنية” ملأت الدنيا وشغلت الناس، واتخذ كل طرف سياسي موقعه السياسي: حركة النهضة رحبت بالفكرة وبجدوى التغيير، والمعارضة عارضت الفكرة لا دفاعا عن الصيد وفريقه، بل رفضا للعملية وحيثياتها.
تتمثـل المفـارقة في أن المتحمسين لتـرشيح الصيد قبل أكثر من عام، تحمسوا - بالقدر نفسه - لتغييره، كما أن معارضي الصيد - فكرة وحكومة واختيارا - الذين انطلقت معارضتهم له قبل ما يزيد على العام أيضا عادوا إلى مواقعهم الرافضة، وتساءلوا عن سبب الاختيـار ودواعي التراجع، وشككوا في أن تقييما موضوعيا حدد ما حدث في يناير 2015، وما ساد شهر أغسطس 2016.
سردية ضرورية لبيان سريالية يوسم بها الوضع السياسي التونسي الراهن، وربما تتواصل طالما أن معالمها لا تزال قائمة في مرحلة ما بعد الصيد، وخروجه من الحكومة، بعد عدم حصوله على ثقة ذهب –عبثا- للبحث عنها في مجلس نواب الشعب.
الاسم الذي تم تداوله بقوة في المشهد السياسي التونسي في الساعات الأخيرة، هو يوسف الشاهد، وزير الشؤون المحلية في حكومة الحبيب الصيد التي ركنت إلى تصريف الأعمال بعد عدم تصويت النواب لها، ثم تصفيقهم المطول شكرا وثناء لها.
يوسف الشاهد، الاختيار الجديد لاقى تقريبا المواقف ذاتها التي طبعت الاصطفافات ذاتها: طبيعي أن حركة نداء تونس هلل للاختيار أولا لأنه نبع من رئيس الجمهورية (أو أعلن من قبل الرئيس أن الله قذف بالشاهد نورا في صدره). النهضة ترحبُ حيث قال ناطقها الرسمي عماد الحمامي أن “النهضة لها معايير لاختيار رئيس الحكومة من ذلك الكفاءة ونظافة اليد والجرأة وتجسيم أولويات وثيقة الوحدة الوطنية”. بقية أحزاب الائتلاف الرباعي الحاكم وتحديدا الاتحاد الحر وآفاق تونس راوحا مكانهما، حيث قبلا بشكل آلي بالترشيح. في المعسكر المقابل عبرت الجبهة الشعبية عن رفضها للترشيح كما البعض من الأحزاب الاخرى بما في ذلك التي كانت طرفا موقّعا على وثيقة قرطاج.
المفارقة المتصلة بجرد المواقف السياسية السابقة، تبدأ من ملاحظة المدة الزمنية القصيرة الفاصلة بين جلسة سحب الثقة وبين بدء تداول اسم يوسف الشاهد مع أسماء أخرى منذ صبيحة الثلاثاء على أقل تقدير (إن لم يكن قبل ذلك)؛ فهي مدة قصيرة توحي بأن الاسم أو قائمة الأسماء كانـت جاهزة في أذهان الفاعلين السياسيين، المعلنين أو القابعين خارج دائرة الضوء.
قد يقول قائل إن الإسراع إلى تقديم مرشح لتشكيل الحكومة سمة إيجابية وصحية أفضل من فراغ سياسي أو تمطيط لمهمة حكومة تصريف الأعمال، إلا أن ربط الإسراع بالضغوط التي مورست على الحبيب الصيد، من قبل العديد من الأحزاب السياسية وحتى من قبل وزراء في حكومته لدفعه إلى الاستقالة يوحي بأن الأمر لا علاقة له باحترام مصلحة البلد أو المعايير الدستورية، بل هـو سعي للتخلص من حكومة طالمـا دافعت عنها الأطراف ذاتها التي أعلنت نهاية صلوحيتها، بل وسوقت الذرائع ذاتها التي استعملتها لبيان جدواها ونادت إلى مساندتها والاصطفاف إلى جانبها.
إشكال آخر منطلق من معايير اختيار يوسف الشاهد، ويتصل بالبعد السابق (التـوقيت والسـرعة) هو مـا يروج حـول قرابة أو مصاهرة تجمع المرشح لتشكيل الحكومة برئيس البـلاد، قرابـة نفـاها المرشح، إلا أنه لم ينـف التأويلات القـائلة بأنـه مـرشح جنـاح ابن حافظ قائد السبسي ابن الرئيس.
تكليف يوسف الشاهد بتشكيل الحكومة التونسية الجديدة، لخص كل مفارقات الوضع السياسي التونسي، وطرح كل الأسئلة الممكنة التي تثار عند كل منعرج أو حدث سياسي.
من يحكم البلاد؟ هل مؤسساتها الدستورية المنتخبة أم “توافقات” الشيخين التي تصاغ في الغرف المغلقة، وتتحول إلى معايير يتعين على كل مؤسسات الدولة الاستجابة لها؟ ما المعايير المعتمدة في تعيين أو في إقالة مسؤولي البلاد؟ هل هي معايير سياسية واضحة ومحددة تنطلق من تشخيص وتقييم لوضع البلاد، أم هي خاضعة لحسابات الحزبين الكبيرين وسعيهما إلى التنفيس عن أزماتهما الداخلية، أو لتقاسم المناصب والتعيينات الإدارية والسياسية؟
التفاؤل الذي أبدته أطراف سياسية تونسية بعد إعلان تكليف يوسف الشاهد، هو التفاؤل ذاته الذي أبدته الأطراف نفسها عند تكليف الحبيب الصيد قبل عام ونصف العام، ومع ذلك كذبت الوقائع تفاؤل المتفائلين، لا لعدم جدوى التفاؤل، بل لأن السياسة ميدان يقيّم ويقوّم بالأرقام والنتائج والنسب والمعدلات، كما أن التفاؤل، في صيغته السياسية، يبنى على أساس قوة البرنامج ووضوحه وما يطرحه من حلول لمشكلات يعرفها الجميع.
“لا يمكن فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلـوب نفسه وبالخطـوات نفسهـا وانتظـار نتائج مختلفة”.. حكمـة تنطبق اليـوم على الواقع السياسي التونسي.
فالملاحظ أن المتحكمين في دواليب حكم البـلاد يعيدون الممارسات ذاتها، سواء أكان ذلك على مستوى معايير اختيار الحكومات أم على مستوى المحافظة على مناويل التنمية، أم على مستوى بنية العلاقات السياسية القائمة، ومع ذلك ينتظرون نتائج مغايرة لما ساد قبل ذلك، ويصرون دائما على بث تفاؤل مزعوم لا يدوم طويلا، خاصة حين تراوح المشكلات مكانها أو تتأزم، وعندها يتفتق العقل السياسي التونسي عن مخرج جديد قد يتخذ مسمى “حكومة وحدة وطنية” أو غير ذلك، ليعاد إنتاج الأزمة بوجوه جديدة.
واضح أن الأزمة في تونس بسيطة ومعقدة في آن؛ بسيطة إن توفرت لها الإرادة السياسية لحلها، وإن تغيرت أساليب التصدي لها، ومعقدة وعميقة وهيكلية إن تواصل التعاطي معها بالأساليب ذاتها، بل يزداد تعقيدها حين تصدر الأحزاب مشاكلها وأزماتها الداخلية إلى مؤسسات الدولة. يوسف الشاهد، بطريقة اختياره وتوقيتها ومعاييرها والقائمين بها، هو “الشاهد” على تردي الوضع السياسي التونسي، الذي طال كل المستويات، ولا يبدو أن تحسنا قد يطرأ فجأة رغم مهرجان التفاؤل الذي انطلقت دورته الجديدة صباح الأربعاء.
التفاؤل بقدوم وجه جديد أو بحكومة جديدة لا يصنع أرقاما اقتصادية مطمئنة تنعكس على أحوال البلاد والعباد، إن تواصلت الأساليب نفسها، والشخصيات نفسها.. والشيخان.