تونس.. الاستقالة وتخومها

Photo

استقالة شفيق صرصار رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، صباح الثلاثاء، بقدر ما فاجأت الرأي العام التونسي، فإنها كشفت حجم ومدى الأزمة السياسية التي تعتمل في تونس.

صرصار لم يكشف عن الأسباب الحقيقية للاستقالة واكتفى بالقول “تأكدنا بأن الخلاف داخل مجلس النواب ليس في طرق العمل بل في القيم والمبادئ التي تتأسس عليها الديمقراطية”. قد يبدو عاديا أن يستقيل رئيس هيئة دستورية لسبب أو لآخر، لكن تفاصيل المشهد التونسي الراهن توحي بأن ما أقدم عليه شفيق صرصار أبعد من مجرد استقالة، خاصة إذا وضعنا الحدث وتفرعاته في سياق ما يسود البلاد منذ أسابيع.

الاستقالة سبقت الخطاب المنتظر لرئيس الجمهورية بيوم واحد، خطاب ينتظر أن يقدم فيه رئيس البلاد تشخيصا للواقع السياسي، وربما تصورا لكيفية الخروج من الانسداد، والأرجح الاكتفاء بالتشخيص دون رسم التصورات، وتلك سمة ألفها التونسيون. هنا يجب الوعي بوجود انسداد سياسي شامل، لا تنفع معه محاولات التجميل أو التقليل أو القول إن حوادثه من عاديات الأمور. في تونس أزمة متشعبة واستقالة رئيس هيئة الانتخابات تعبير أخير عن مداها.

ثابت أن تنظيم الانتخابات البلدية التي كان مقررا تنظيمها في 17 ديسمبر من العام الجاري، أصبح مستحيلا بعد استقالة رئيس الهيئة، بعد أن كان التنظيم يعد صعبا في ظل الصعوبات التشريعية والسياسية واللوجستية التي تعانيها الهيئة. وكانت استقالة شفيق صرصار حاسمة في الانتقال من “العسير” إلى “المستحيل”، على أن هذا الانتقال ليس إلا الجزء الظاهر من المشكلة.

توقيت إعلان الاستقالة جاء قبل يوم واحد من الكلمة التي ينتظر أن يلقيها رئيس الجمهورية الأربعاء، والتي كانت منتظرة بالنظر لما يشق المشهد السياسي التونسي من خلافات تكاد تطال كل شيء في البلاد؛ في الاقتصاد كما في السياسة وفي العلاقات الخارجية كما في التأسيس للقادم التونسي.

قانون المصالحة الاقتصادية، بعد أساسي في الأزمة، بين الداعين إليه والقائلين بكونه مدخلا أساسيا لعلاج الوجع التونسي، في بعده الاقتصادي خاصة، وبين الرافضين له (شكليا أو مبدئيا ففي رفض القانون دوافع شتى) من منطلق كونه يجب أن يستنطق من رحم عدالة انتقالية لا مسارات انتقائية تريد إرضاء الذئب والراعي. والصلة بين قانون المصالحة وبين استقالة صرصار كامنة في ما يروّج عن نزوع سياسي لتنظيم استفتاء حول الخلاف، وعرض الأمر على الشعب ليحسم الأمر ويبت في شأنه. هنا يقال إن تنظيم الاستفتاء من شأنه إرباك موعد الانتخابات البلدية، ومن شأنه أيضا مطالبة الهيئة بمهمة غير قادرة على إنجازها. وفي الأمر إسقاط للهمّ السياسي الحزبي الصرف على الورشة التأسيسية الضرورية في المسار الديمقراطي. هنا يمكن التقاط ضغوط مورست على الهيئة بدعوتها إلى التركيز على الاستفتاء، بما يعني إمكانية تأجيل الانتخابات البلدية.

يتقاطع هذا التصور ويلتقي مع تصورات (حزبية أيضا) منادية بتأجيل الانتخابات البلدية، وهنا لن يعدم الناقدون لفكرة التأجيل سبل قراءة ذلك، بأن المنادي بتأجيل الانتخابات البلدية -على مفصليتها- هو غير الجاهز لخوضها، أو المفتقد لمعداتها شعبيا أو لوجستيا، أو لتأثير التصدعات في جسمه.

البعد الآخر للاستقالة كامن في العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية، والمؤسسات الدستورية المستقلة. الديمقراطيات السوية هي تلك التي تتوفر على مؤسسات قوية نافذة، سطوتها القانونية والصلاحيات المخولة لها تعلو على الرؤساء وعلى الوزراء. هنا يبدو أن المثال التونسي يتوفر على رغبة أو إرادة لإضعاف المؤسسات الدستورية المستقلة، والإرادة والرغبة تنبعان من الأحزاب السياسية الكبرى، والدوافع شتى؛ قد تبدأ من غياب الإيمان بدور المؤسسات، وقد تكون تبرّما من “مزاحمة” تمارسها الأخيرة لما اعتادت عليه الأحزاب في الهندسة السياسية ما قبل الديمقراطية.

الثابت أن استقالة رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات، لا يمكن توصيفها بغير وصف الكارثة على المسار السياسي التونسي المتعثر، ولا يمكن تقديره بغير الرسالة السلبية للداخل أو للخارج.

الهيئة المستقلة للانتخابات تقع في قلب منطقة العواصف السياسية حيث تدور الخلافات حول نظام الحكم وحول المصالحة الاقتصادية وحول التدبير السياسي لمستقبل البلاد. ولكن الأخطر هو أن تمثل الاستقالة بداية ضرب مؤسسات الدولة الدستورية بطرق غير دستورية، وهو ما يعني النكوص عن مكاسب تحققت بعناء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات