هل يمارس البعض من الأدباء في مذكّراتهم وسيرهم الذاتية تصفية حساب مع الزمن، ومع أشخاص مرّوا بحياتهم وأثّروا فيها وفي خياراتهم الحياتيّة، وبقيت ذكراهم ماثلة أمام أعينهم، بحيث لا يستطيعون منها فكاكاً، وتكون الكتابة عنهم محاولة للتخلّص منهم ومن إرثهم النفسي الذي يشكّل حمولة ثقيلة للذاكرة التي تتخفّف بالبوح والتعرية؟
يحفل تاريخ الأدب بأعمال لأدباء تبرّأ البعض من المحيطين بهم منها ومنهم، إذ وجدوا فيها ما يعتبرونه إساءة بحقّهم وحقّ ذويهم وتاريخهم وتشويهاً للوقائع والذاكرة والذكريات، وعبثاً بالتفاصيل ومحاولة للظهور في دور البطل وإن كان بطريقة الضحية التي تنتقم بالذاكرة والكلمات.
لا يكاد أيّ عمل سيريّ يخلو من تجاذبات تالية، بين مؤكّد لحادثة ما، أو مفنّد لها، أو آخر يرويها ويؤوّلها بطريقة مختلفة، ولكن تلك التحفّظات تتراجع أمام سطوة الفنّ الأدبيّ الذي ينتصر لنفسه، ويوجب النأي عن الانتقام كغاية أو آليّة من آليات التنكيل بالآخر.
من الأدباء الذين أحرجوا عدداً من ذويهم والمحيطين بهم بأعمالهم السيرية ومذكراتهم الأميركي بول أوستر في كتابه “اختراع العزلة” الذي كتبه عن والده المتوفّى، وتحدّث عنه بطريقة وجد فيها أهله إساءة معيّنة لذكراه. وعربيّاً، على سبيل المثال يمكن تذكّر “الخبز الحافي” للمغربي الراحل محمّد شكري وما أثاره من ردود أفعال متباينة.
كان أوستر حريصاً على تفعيل الذاكرة بوصفها مكاناً ومبنى ذا أعمدة متتابعة، وأفاريز وأروقة، أي مادة متجسدة داخل الذهن يقوم بالسير فيها والتنزه من هنا إلى هناك، ويمكن للمرء سماع أصوات وقع أقدامه، منقلاً خطوه من مكان إلى آخر.
يروي أوستر أنه لا حد على الإطلاق لقدرة أبيه على المراوغة. فالآخرون بالنسبة إليه ميدان مزيف. لذلك فهو يتوغل فيه بجزء غير حقيقي من ذاته، جزء مساو في زيفه لذاك الميدان؛ إنه يكشف عن ذات أخرى قام بتدريبها كممثل ينوب عنه في الفراغ الكوميدي للعالم على اتساعه. كان هذا النائب الذاتي مثيراً ومبهراً، كان طفلاً مفرط النشاط وتلفيقاً من حكايات طويلة، ولا يمكنه أن يأخذ أي أمر مهما كان على محمل الجد.
يصف أوستر والده بأنه كان يخلو من الشغف نحو أي شيء، أو أي شخص، أو أي فكرة. كان يعجز عن كشف نفسه تحت أي ظرف، أو أنه لم يرغب في ذلك، فقد تمكن من الإبقاء على مسافة تفصله عن الحياة لكي يتجنب الانغمار في جريانها وسرعة أشيائها. يتأسف وهو يتمنى لو أنه واصل البحث عنه عندما كان لا يزال على قيد الحياة، لو أنه لم يوقف محاولاته للعثور على شخصية الأب التي لم يتمثلها قط. لكن ذاك ما بات في حيّز الاستحالة، وللذاكرة وحدها المجال للنهوض بدورها في الاحتفاظ بصور الحياة على تناقضاتها.