مررت بقوم يتذاكرون حديث مقامة أبي سعيد الجندوبي التي لهجت بها الأشداق وطار ذكرها في الآفاق، فاستوقفني ما نال النّاس من الإعجاب ومن غريب كلام تطير له الألباب. وقد كان أبو سعيد هذا فصيح زمانه وفطين أقرانه، واسع المجلس فخم الملبس حسن الحديث، وكان قد شحذ سيف لسانه لقطع دابر السّفيه والخبيث.
فدنوت أستقصي الأمر، فإذا عراك النّاس فيها حامي الوطيس كأنّما اجتمعوا على رجم إبليس. فسألتُ ما الخطْبُ؟ وما هذه الخُطَبُ؟ فانسلّ من الجمع غلام رقيق الحشا معسول اللّمى باسم الثّغر عن لؤلؤ منضود وفي لحاظه غمز مقصود، فكأنّي به من آل نِماط الذين حازوا المجلس والبلاط. وقال: ألا ناشدتك اللّهَ إلاّ نزلتَ، اليوم نُحكّمك في مقامة أبي سعيد الجندوبي المعروفة لجمهور الأخباريّين بمقامة السمّ السّاري وقد نظمها لمن استعار لهم لفظ "المَجاري" يعني القنيَّ وما يجري فيها من القاذورات، ويكنّي بذلك عمّا يقترفه أهل الإعلام في أيّامنا من المعاصي والموبقات وما يُقحمون النّاس فيه من المُهاترات، حتّى شغلوا شبابهم عن أمور الدّنيا والدّين ثمّ أنسوا شيبهم حِلم المشايخ ووقار السّنين.
فوقفتُ أنظر، وقد همدتْ جلَبة النّاس، فإذا بذلك الغلام يصدح بصوته المغناج، ويحرّك العَجُزَ منه بين استقامة واعوجاج، فقلت لأنكرنّ أمر المقامة حتّى أستجلي سريرته وأستخبر عريكته . واستزدتُه: ما علمتُ بها، ولا سمعت عنها، ولا حدّثني بمقامة أبي سعيد غيرُك، فهل لك في أن تأتيني ببعض معانيها، ولا تُعنّ نفسك بوزنها وقوافيها؟ فلم أُطبق شفتي على آخر كلامي حتّى نطّ أمامي، ووجدته يلاصقني لكأنّه يُعانقني. فدعوتُ به: رويْدا، وقلت: يا هذا على رسلك، وأفسح بيني وبينك. فأطلق عقيرته بمقامة أبي سعيد لم يُخلّ بين فواصلها موضعا لنَفَسْ ولم يفُته من كلامه ما أنشأ وما اقتبَسْ، لكأنّه هو صاحبها، يجلو معانيها ويشدو مغانيها خيرا ممّا يفعل كاتبُها.
فقلت على رؤوس الملأ: وا عجبي الدّهرَ من آل نماطِ، إذا جدّ جدّهم اجتمعوا وكادوا، وإن هزَل هزلُهم تناطحوا وتعادوا. فتضاحك النّاسُ. والتفتُّ إلى الغلام أريد تقريعهُ. وقلتُ: تسأل عن أمر أبي سعيد، وأمرك أغربُ، وتشمت فيمن هجاهم وأنت إليهم أقربُ.
فبرز لنا أعرابيّ أعورُ لا تصُحّ إمامته، ضئيل مذبّب الرأس لا تستقرّ عمامته. فاستفزّ النّاس ضحك لم يكتمهُ إلاّ الحياءْ، فلمّا نطق خلتُه المُبرّد أو الفرّاءْ. وألقى خطبة عصماء كأنه في حضرة الملك، وأرسل نظما يحكي مَسير الشّمس في الفلك. فبُهت من سمع بلاغته، فنازعتني نفسي أن أعرف أصله وموطنه. فبادرته: ممّن الفتى؟ فقال: من آل سِياط. فزاد من عجبي، فقلتُ له، قد عرفنا آل نِماط، فبربّك من آلُ سياط؟
فقال: أوَليس من آل نماط من شذّ عن الصّراط وذادَ عن اللّواط؟ قلتُ: بلى. منهم. فأردفَ: أوَليس ذلك يوجبُ الجَلدَ؟ قلتُ: بلى. فقال: فنحن آلُ سياط خلقنا اللّه ليجلد بنا آل نماط، ومنّا صاحبك أبو سعيد الجندوبي زاد اللّه في إحسانه ووفّى ميزانه.
فتضاحك النّاس ملْء الأشداقِ حتّى فاض الدّمع في المآقي.