عندما تقلع الطائرة محمّلة بالركاب فبلا أدنى شك إلى وجهة معلومة و لكن التونسي أقلعت به الطائرة في رحلة الى ما لا نهاية و بقيت تترنح به في السماء فتأبى أن تعيده من حيث أتى و تريحه عناء الرحلة و تجهل في الآن ذاته إحداثيات الهبوط!
هذا ما يعبر عن رحلة فكرية نظّمها عقل الإستيطان الفكري و نفذتها نخبة سياسية مفلسة بعد الإستقلال منطلقة من التخلّف و الظلامية كما تعتقد الى الحداثة و الإنفتاح أو دعنا نصف الوضع بتصفية رواسب الماضي . و في الأثناء أتت الرحلة على العقل فأردته فارغا كصحراء قاحلة بلا حضارة و يتيمة بلا حياة ، تعاني الجفاف الثقافي بعد أن جرّدته من الجذور العميقة تركته يخوض رحلة داخل نفس الرحلة يبحث عن هويته و عن جذوره الثقافية .
و قد يفسر ذلك بعض الظواهر كمراوحة نفس العقل بين عدة مدارس دون أن ينتظم في أحدها ، فيقف على أبواب مدرسة الإسلام السياسي و يتردد على مدرسة اللٌائكية أحيانًا أخرى ، و لا يكاد يحسم موقفه و يغرق في التناقضات بعد أن إستدرجته النخبة الى سباق فكري بلا نهاية كلفّه سنين طويلة من التأخر عن مواكبة نظرائه من الشعوب الغربية و تركه تائها في هوامش الأمور و سطحيتها .
و بماضي لم نتصالح مع رواسبه و بتجربة الحاضر المشوّهة نكرّس لتجربة دولة الإستقلال من جديد فالنخبة الجديدة و هي وريثة سابقتها في إتجاهها الفكري تبدو على أهبة الإستعداد للدخول الى حلبة التطاحن الإيديلوجي من جديد دون أن تتيح لهذا الشعب هدنة يخاطب خلالها ضميره و يبني حواره مع أصوله الفكرية ليكتشف ذاته و يقف على هويته فيأخذ ما يؤخذ و يترك ما تجاوزه الزمن ,
حتى أنّه يجهل مع من يتصارع و في أي زاوية يقف و الى أي نقطة سيفضي الحال هذا . لم تكفهم النتائج الكارثية التي وصلوا اليها و لم تشفي صدورهم ،بعد جرف كل القيم و الإمعان في الإنحطاط و إنهيار كل جسر يعبرون به الى ضفاف الأصول الثقافية . و هكذا أضاع العقل التونسي طريقه في أول مفترق طريق /و في أول معترك للصدام بين قطبي المرحلة .
حتى أنّ الغالبية ترفض خيار الإستقطاب بين اليمين و اليسار و تأخذ موقفا منهما معا في دلالة ليس على موقف الوسطي المعتدل بل المتطرف الذي يعادي الجميع و الجاهل الذي لا يعرف السبيل . و خارج الموقف السياسي ، المشهد الإعلامي صورة عن هذا التطاحن بمقارنة الإنتاج و المحتوى الذي يقدّمه الإعلام القريب من كل طرف فنقطة الإلقتاء بينهما هي إرادة السيطرة …
السيطرة على العقل دون إقامة حوار محمود معه ! الكل يريد الهيمنة و ملأ العقول بما يناسب توجهاته كأنه علبة بعد أن أفرغتها النخبة الأولى من كل محتوى . في الحصيلة سينجبون كائن عقيم فكريا مسلوب الإرادة يعاني التأخر في كل مجالات الحياة يعيش الأوهام و ينعزل عن الواقع ، يهدم و لا يبني ، يتراجع و لا يتطوّر و يستهلك و لا ينتج .
و الأقبح و الأشد سوء هو أنّهم لا يدركون حجم ما تقترفه أيديهم من جرم في سياق دقيق الأصل فيه التأسيس للمستقبل فلا يكفي أن جُرّ هذا الشعب غصبا الى هذا المسير و وضع أمام مفترق لم يسبق أن هيأه الخطاب السياسي و الثقافي له فلم يخاطٓب أصلا إلا بخطابات مضللة ، و الحقيقة أننا جميعا كشعب بكامل أطيافه و نخبته أنهينا مرحلة و لا ندرك طبيعة المرحلة التي نطلبها و نريد تأسيسها !