تحوّل الرئيس قيس سعيد الى “رحاب جامع الزيتونة” ليتوجّه بالتهاني للشعب التونسي بمناسبة حلول شهر رمضان المُبارك. وليس التنقل الى الجامع أمرا جديدا، فقد حرص الرؤساء ورؤساء الحكومات دائما على الحضور بالجوامع المناسبات الدينية الهامة، والاشراف على المواكب الدينية والمشاركة في الصلوات، لكن بصفتهم “المدنية” الدنيوية وليس من أجل “إمامة” الناس.
فالحضور يتمّ الحرصُ فيه على إبراز الحظوة السياسية، فيما يُحافظ الائمة والوُعّاظ على صفاتهم الدينية من خلال الدروس التي يُلقونها أو الصلوات التي يؤمونها أو المواعظ التي يتقدمون بها. غير ان “الرئيس الصالح” أتى خطوة غريبة في دولة ينصّ دستورُها على كونها مدنية، وتُستنفرُ نُخبها لمنع كل “مزج بين الديني والسياسي”، ولم يسبقه الى ذلك غيره من الرؤساء الذين تعاقبوا على حُكم تونس.
لم يكن غريبا استعمال الرئيس منذ فترة طويلة معجما “دينيا” يجعله في كثير من الأحيان أقرب “للسلفيين” منه “للقوى العلمانية” ولكنّ معجم كلمته يوم التهنئة كان موغلا حقّا في السلفية، وقائما على تناقض صارخ بين مقاصد الكلام، وحقيقة القول. ينخرط “الرئيس الامام” في لعبة خطيرة، تقوم على استغلال المسجد، والمناسبة ليتكلّم لا بوصفه رئيسا لدولة مدنية، بل بصفته إماما دينيا.
فقد حضر بصفته رئيسا لكنه تكلّم “ليعظ” المواطنين وينتصب شارحا مُـــؤّلا. وذكر في ختام كلمته كونه يروم الثبات “على الحق” وأن ” السلطة ابتلاء من الله” وأضاف أن “كل خطوة يخطوها من له أي سلطة واي جاه ان حسيبُه الله في هذه الحياة الدنيا وحسيبُه الله يوم يقف بين يديه يسأله عما فعل في الحياة الدنيا.”
ويندرجُ قيس سعيّد وفق هذا المعجم و”استراتيجياته” في صميم الفضاء “الاسلامي” القديم، فهو وليّ الامر الذي أبتُلي بــ “الخلافة” والإمامة، لأنه موكول اليه “حفظ مصالح الناس وحراسة الشريعة” يهتم بـــ”أمور الدنيا والآخرة”، وهو أمر لا يتناسبُ مع حقيقة الحال. فالسيد قيس سعيّد مواطن تونسي رغب في “الرياسة” وطلبها وبذل من أجلها جهدا ووجها، وعرض نفسه مع آخرين أمام الناس الذين انتخبوه ليهتم بأمور دُنياهم لا بأمور دينهم. ولا نعتقد من ثمة ان “الاعتقاد” بكونه في “بلاء/ امتحان الاهي” أمر يتناسبُ إضافة الى كونه غير مسؤول على إنفاذ الحقّ بقدر مسؤوليته على “انفاذ القانون” فالرئاسة “لم تأته مُنقادة” مثلما قال ابو العتاهية.
هذا الحرصُ على الظهور في ثوب “الامام” كان يُفترضُ ان يتواصل من جهة “واجب الإمام” الشرعي في الحفاظ على وحدة الامة، ودفع الفتنة. فالفتنة أشد من القتل وقد لعنها الرسول نفسهُ وكان إنكارُها محلّ إجماع “علماء الامة”، إضافة الى كون المناسبة هي فرصة للتّوادُدِ والتّراحُم. وعبثا كان حديث “إمام الجامع” حول التسامح والرحمة و”بسطُ الوجه وحُسنُ الخُلق”، فقد جاراه “الامام الرئيس” قليلا ليعود لخطاب انشائي وعظيّ توجّه فيه الى المسلمين لا الاسلاميين، مُستدلّا على ذلك بكون الله خاطب المسلمين وليس الإسلاميين.
و قال سعيد إن ”الله توجّه إلى المسلمين والمؤمنين وليس إلى الإسلاميين”، مضيفا ”ربنا قال يا أيها الذين آمنوا. وإبراهيم كان مسلما ولم يكن إسلاميا. نحن مسلمون والحمد لله على نعمة الإسلام”. وتابع ”جمعية العلماء المسلمين لم تكن جمعية العلماء الإسلاميين. هذا الفرق وهذه المناورة الكبرى التي يقصد منها تفريق المجتمع.. لم تكن القضية قضية إسلام وغير إسلام”. كما اعتبر أن شهر رمضان ليس فرصة للاحتكار أو المضاربة بقوت الناس، مشيرا إلى أنه “لا تسامح مع من لا يعرف التسامح، ولا تسامح مع من يتظاهر بالورع ولا يتذكر المقاصد الحقيقية للإسلام”.
استقبل الكثير من “أنصار الدولة المدنية” ودُعاة “العلمانية” ما قاله “الرئيس الامام” بكثير من البهجة والقبول، مستغلين درسه السطحي حول “المسلمين/ الاسلاميين” في الصراع ضدّ حركة النهضة وحلفاءها باعتبارهم المقصودون بكلام “الرئيس الإمام”، وفاتهم أن قيس سعيّد بما أتاه في جامع الزيتونة وبخطابه و بمعجمه ومصطلحاته وبنيته الذهنية أكثر إنخراطا في “البُنى” العتيقة، وكونه يستحضر موروثا هائلا “للآداب السلطانية” التي تُذكّر بأكثر مراحل التاريخ الاسلامي بشاعة وقتامة، فقد كانت مراحل يحتكرُ فيها السلاطين والخلفاء كل شيء، سلطة الدنيا وسلطة الدين، وهو ما مكّنهم من التصرف في رقاب الناس وأرواحهم واملاكهم.
يروم “الرئيس الإمام” الهيمنة على الحُكم، لذلك يُعطّل أعمال الحكومة، ويرفض التعاطي مع البرلمان. كما يحتكرُ تأويل الدستور وقد أعلن ذلك صراحة ودعّمه برفض المصادقة على قانون المحكمة الدستورية، كما انه لا يُفوّتُ فرصة في التذكير بكونه “الرئيس الأوحد” للبلاد. ثمّة تبسيط غريبٌ للمفاهيم، وتجاهل مُريب لما تنهضُ عليه الخطابات، واستراتيجياتُها.
و تسطيحٌ للصراع السياسي، كثيرون فرحون بقيس سعيّد لأنه يُهاجم النهضة و” الإسلام السياسي” ولكنهم يتناسون أنه لا يصدُر في ذلك من خلفية تقدميّة، تؤمن بالقراءات الحديثة للخطاب الديني او المقاربات العصرية للتاريخ الاسلامي من أجل تحديثه وتخليصه من “التأويلات الفقهية” الاصولية/ الماضوية، وتُكرّس حقوق الانسان وتضمن بناء الدولة المدنية وتؤسس للنظام الجمهوري ولدولة العدالة الاجتماعية العصرية، بقدر ما يصدُرُ من موقف أكثر رجعية وأخطر على مستقبل المؤسسات والدولة فضلا على “السلم الاهلي” يستحضرُ فيها صورة “الامام” الفاضل والرجل الصالح الذي يُحاربُ الفساد والمُفسدين في عالم قد امتلأ فسادا.
ولكنّ الصورة الأكثر جلاء اليوم على “الاسلامي” الذي يتوجّبُ التفريق بينه وبين “المُسلم” هو قيس سعيد، ألم يُغادر موقعه كــ”رئيس” لتونس ليُصبح “إماما”.