للخطاب المسيحاني بنية موحّدة. اخترقت كل الديانات والحضارات. تقوم على تصور مفاده سقوط العالم في السديم/ الظلام/ الشرّ لهيمنة الفساد عليه، ولذلك تُسلّط الآلهة لعنتها وعقابها على هؤلاء الفسدة، حتى يأتي من لدنّه مبعوثا/ صالحا/ رسولا فينبعثُ به الفجرُ ويعمّ الخير والصلاح….
هذه بنية الحكايات اليهودية، وهي نفس قصة المسيح بن مريم، وهي التي تمّت استعادتها في المخيال الشيعي الإسلامي حول المهدي المنتظر، أو الإمام الذي سيُبعث على رأس كل مئة سنة ليُجدّد الدعوة والرسالة عند أهل السنة…
نفس هذه البنية يستعيدها قيس سعيد، ويغرق في تفاصيلها فإذا به يضع نفسه في نفس "مرتبة" هؤلاء المصطفين الصالحين حملة الرسالة الإلاهية، ومبعوثي العناية الإلاهية حتى يملؤوا العالم خيرا بعد إن عمّه الفساد، وينصرون الاقلية الصادقة على الأغلبية الفاسدة. لذلك يمثل ال 500 الف الذين شاركوا في الاستشارة "العباد الصالحين" ضديد الأغلبية التي تقاطعهم وهي أغلبية متآمرة وفاسدة تمنع "الصلاح" من البزوغ. ولكن الله سيُمضي أمره بفضل "المصطفى" سعيد.
الليلة انبنى خطاب قيس سعيد على نفس السردية، وتشكّل وفق بنيتها المألوفة:
• "بعد إن ساد الظلام…واستفحل الظلم في كل مكان…
• جاء يوم من الايام التاريخية الخالدة يوم 25 جويلية…/
• يوم التطابق بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية…
• من أجل تصحيح مسار الثورة، بل وتصحيح التاريخ…
• واليوم الشعب يريد تطهير البلاد…
• وانها ثورة حتى النصر…"
تغيّرت المفردات لكنها تنويع فروع على أصول، وتغيرت الفواعل لكننا في نفس الذهنية المسيحانية، والرجل لا يُخاطبُنا نحن "الاغلبية" الفاسدة التي تُنكّل "شعب المختارين" بل يُخاطبُ نفسه وصحبه الأبرار.
إن كل الدعوات الموجهة الى الرئيس وتدعوه إلى "التشاركية" أو إلى "حوار" أو إلى "ميثاق جديد" لا تفهم الرجل ولا تُدرك طبيعة تفكيره ولا بنية الذهنية التي تتحكم في سلوكاته وتصوراته. فليس في وارد السيد الرئيس الجلوس إلى الأغلبية الفاسدة/ الشريرة، وبقدر ما تنغلق السّبلُ وتصعُبُ الظروف فإن ذلك دليل الاختبار الإلاهي والبرهان على كونه على حقّ…..
سيدنا من المصطفين، وقد حُمّل الأمانة وهي كرهٌ له ولم يخترها، ابتلاه الله بالسلطة والسلطان مثلما ابتلى انبياءه الصالحين. إنه العهد القديم، الذي تنوء بحمله الجبال… تلك هي الحكاية…
أما ما يهمّ معيشة الناس ومأكلهم وملبسهم ونقلهم ومسكنهم، فذلك من قضايا الأنعام ومن "مفاتن" الدنيا الدنية الغرّارة التي ليست الا مفسدة، لذلك لا يُخالطُ سيدنا "الصالح" من طلبها ومن ظهرت عليه علامات نعمتها وثرائها.
المسالة ليست سياسية بتاتا…. لذلك قلت لا أمل…. ليس إلا الخسارة….