كلما توجهت أصابع الاتهام إلى النظام، أو حتى اقتربت منه، وكثيراً ما توجهت واقتربت طوال إحدى عشر عاماً من الجرائم المتواصلة. ما الذي يحدث؟ يهبط الصمت اللئيم على مثقفي النظام، ويصابون بالخرس، لا ينبسون بحرف. فالجريمة واضحة وضوح الشمس، يتجاهلون القتلى، ما داموا مجهولين، بلا أسماء ولا هويات، إذا فليكونوا إرهابيين لا يجوز عليهم وصف الضحايا، ما يريح الضمائر الميتة.
لم يكن غريباً ألا تظفر منهم مجزرة حي التضامن بأية إدانة، ولا حتى باستفسار، مع أن الضحايا باتوا معروفين بالاسم والهوية والعمل، كذلك القتلة باتوا معروفين، الفيديو فضحهم، انكشف انتماؤهم لأية جهة، وأيضاً الحواجز التي كانوا مشرفين عليها، والشوارع التي لملموا منها الضحايا المدنيين.
لا تخفي الحادثة همجيتها، كانت النمط الذي تعامل فيه جنود النظام وميليشياته ورجال مخابراته، مع الأهالي لردعهم عن المشاركة في الاحتجاجات، أبرزت الطابع الوحشي الذي رافق قمع المظاهرات السلمية، ما برر حمل السلاح فيما بعد للمتظاهرين، فالقتل كان على الهوية، ليس حسب المنطقة والعائلة فقط، بل وعشوائياً من دون أي شبهة، أحيانا كان لمجرد نزوة، أو تدريباً على القتل، او اختباراً لهذه القدرة، هذا عدا عن التلذذ بإزهاق الأرواح البريئة. لذلك ينفي مثقفو النظام علمهم أو معرفتهم بما جرى، ومازال يجرى، بل ويتواطؤون على نكرانه. يستحيل أن يعترفوا بهذه الجرائم.
يصل النكران إلى ما يدعى (الخواف من الثورة)، عبر عنه فنان من الكومبارس، في معرض تصور لو أن الفنانين الذين غادروا البلد أرادوا العودة إليه، فاشترط عليهم الاعتراف بأنه ما حدث لم يكن ثورة، يتساوى في هذا الادعاء مع كاتب يصر على وصف الثورة بالزلزال، تحدوه رغبة جارفة في محوها من الأذهان، لكن ماذا عن الواقع؟
سرعان ما كان المشهد الثاني تحت الجسر، الآلاف من الأهالي السوريين في انتظار أحبائهم، ينتظرونهم طوال النهار والليل.
لم يكن لديهم معلومات عمن شملهم مرسوم العفو، الأخبار عن المعتقلين كانوا يشترونها بالمال، إن كانوا أحياء أو أموات. جاؤوا لاستقبالهم بعد سنوات من الغياب، إن كانوا من المطلق سراحهم.
تلقى المساجين قبل الإفراج عنهم محاضرة كانت إذلالاً لهم، بعد اعتقال ظالم ربما دام عشر سنوات وأكثر، مع أنهم أبرياء إلا إذا كانت المطالبة بالحرية جريمة، وبلغ التعسف اعتبار سنوات سجنهم وتعذيبهم تأهيلاً لاستعادة وطنيتهم، طبعاً بشروط على أن يحسنوا الخضوع، ولم تنته المحاضرة إلا بالهتاف للنظام.
تلاه الإذلال الثاني بتمادي وسائل إعلام النظام في إجبار الضحايا وأهاليهم على شكر صاحب مرسوم العفو، والهتاف له مع الشكر على منحهم فرصة جديدة للحياة، وذلك تحت طائلة الكاميرات وتهديداتها.
كشف الجمع الغفير من الأهالي عن العدد الهزيل للمفرج عنهم، والعدد الهائل من هؤلاء الذين ما زالوا معتقلين ومخفيين قسراً، ولا يعرف عنهم شيء، هل هم أحياء؟ جاء الأهالي حاملين صورهم عسى يصادفون من قد يتعرف إليهم.
لم تكن مسألة ترويج مرسوم العفو على أنه مكرمة، تستحق الامتنان ولا الشكر، بل كانت فرصة لاتهام النظام بحالة المعتقلين الذين خرج بعضهم من السجون فاقدي الذاكرة، وجوههم شاحبة وأجسادهم ضامرة ونظراتهم شاردة. هل هؤلاء هم الذين دمروا سوريا وقتلوا مليون سوري وهجروا الملايين، حاصروا وجوعوا وشردوا، ورموا البراميل المتفجرة فوق المدنيين الآمنين، وارتكبوا المجازر؟
ستقوم وسائل الإعلام والصحافة وقناة المنار والميادين وحزب البعث… وبثينة شعبان، بالترويج لهذه المكرمة المذلة، بحكم سوابقهم في هذا المضمار.
بينما ميليشيات الموالين المسعورين امتطوا الذباب الإلكتروني وانطلقوا في الفضاء الافتراضي يروجون لهذا الانتصار الوطني في مجزرة حي التضامن، التي كانت حسب ادعاءاتهم رداً على مجازر الإرهابيين برهنوا عليها بفيديوهات تنظيم داعش المنتشرة عن الإعدام بالمفرق والجملة، والحرق وقطع الرؤوس والأيدي والرمي من حالق…. على أنها لهؤلاء الذين قبض عليهم في المظاهرات، أو بسبب وشاية، أو تقرير كيدي. لم يخف الموالون الحاقدون شماتتهم، ولا انتقادهم لمرسوم العفو، ولو أنه النظام لم يعفو، بقدر ما اعترف بجرائمه.
بينما مثقفو النظام من شعراء وروائيين والغون في الصمت.
نقول مثقفو النظام تماشياً مع الدارج عنهم، لكنها ليسوا مثقفين، لا علاقة لهم بالثقافة، بل بالنظام، ملحقون به، أسوة بغيرهم من العملاء والأعوان والمؤيدين… ومن هذا القبيل.
لا جديد، في ما يجري بسوريا، طالما المعتقلون ما زالوا معتقلين، وطالما مثقفو النظام احترفوا الصمت، والموالون احترفوا الضجيج.