مسألة حرّية التعبير

في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، برزت ظاهرة لافتة تتمثّل في تلك الجرأة الاستثنائية لروّاد "فيسبوك" على التعبير عن آرائهم وانتقاد الأوضاع الجديدة. هذه الجرأة كانت غائبة، تماماً، خلال العقود الماضية، حيث اعتُبرت حرّية التعبير جريمة تُعاقَب بأشدّ العقوبات. ومع ذلك، فهذه الحرّية الطيّبة المُكتسبة حديثاً لم تكن دائماً إيجابية، إذ أفسحت المجال أمام موجة من التعليقات العشوائية والمُبالغات العِدائية التي تفتقر إلى المصداقية.

مهما يكُن فهو أمرٌ بات طبيعيّاً. ما وفّره النِّظام الجديد من حرّيات بات استخدامُها، لا يعني تحمُّل أيّة مسؤولية على ما يُوزَّع من اتّهامات، لا تعدو أحياناً أو كثيراً، أن تكون تصيُّداً لأخطاء وتحويلها إلى جرائم وطنية، من دون أدلّة، تُفسَّر وفق أهواء أيديولوجية، تبلغ المغالاة فيها حدّ ابتكار نيّات مشبوهة وإسقاطات مُريبة، ترفدها محاولات تأويل تستنهض الشياطين، فالملائكة مطرودة من ملكوت النقد. إذا أحسنّا الظنّ فهي ممارسة لـ"شطارة"، لا تخلو من حذاقة.

إذا أحسنّا الظنّ بها، قد تكون ناتجة عن عقلية تعتني بالمؤامرة وتجتهد في تنويعاتها، وحالة من التمرُّس غير الناضج بحرّية التعبير التي تتحرّى الحقيقة. وإذا شئنا التعليق عليها، يُمكن القول إنّها لم تُحسن استعمال حرّية أصبح التمتّع بها يُشير إلى تعمُّد الجهل. ولا تشي بحرّيات يجب أن تُصان، لا يجوز التفريط بها لترويج الإشاعات.

لا يُمكن فَهْم هذا الحاضر المُعقّد الذي ورثناه من دون العودة إلى الماضي الذي عشناه. فالنظام الذي حكَم سورية لعقود طويلة نجح في بناء آلة قمعية ضخمة، سخّر لها مئات الألوف من الجنود، والمُخبرين، والشبّيحة، ورجال أعمال ليسوا إلّا أثرياء حرب وتجارة مخدّرات. هذه الآلة لم تكن تهدف إلى السيطرة على الناس فقط، بل إلى سحق كرامتهم وتجريدهم من القدرة على الفعل والتفكير.

ورغم هذا الإرث الثقيل، فإنّ النظام الجديد استطاع، بدرجات لافتة، أن يحُدَّ من وقوع عمليات انتقام واسعة النّطاق كان من المُمكن أن تؤدّي إلى تصفيات بالجُملة، لن تكون إلّا كارثة إنسانية مُشينة. صحيح أن بعض الحوادث الفردية وقعت، لكن السيطرة على غيرها من الحالات كان إنجازاً جيّداً بالنظر إلى إرث من العنف والقهر استمرّ نصف قرن. لقد أدّت التدابير المُسبقة إلى تخفيف ممارسات خاطئة كادت أن تكون النتيجة المحتملة لسنوات طويلة من الدكتاتورية، ساعدت السيطرة عليها في ترسيخ السِّلم الأهلي، كما ساهمت في الحفاظ على ما تبقّى من مؤسسات الدولة.

منذ انفتح مجال التعبير عن الرأي، تعدّدت الأطراف المُتبارية في احتلال ساحة التعبير. والملاحَظ أنّ كلّ طرف يُحصّن نفسه في خندق، لا يتعدّاه، حتى لو ظهرت حقائق تُثبت خطأه. وبدلاً من مراجعة الذات، يُدافع عن موقعه، في الخندق المُتمترس فيه، وكأنّه يجب أن يكون رأيه النقيض لما يحدث، والبقاء مهما حدث من مُتغيّرات، ما يُكرِّس حالة الانغلاق، ولا يعود الحوار إلّا ساحة حرب، يُنعشها الصِّدام.

مسألة الحوار ليست بدعةً، خصوصاً أن لها علاقة بالمصير والمستقبل في ظرف حالك، نسعى للخروج من مستنقع الجميع غارقون فيه، ولا حُجّة لهؤلاء الذين يَبتدعون يوتوبيات غير فاضلة، الحرّيات فيها مُطلقة، تفضي إلى رفع حدّة النزاع، وبلا جدوى.

من المُمكن أن يكون "فيسبوك" وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، ساحة صحّية لتبادل الآراء وأن تلعب دوراً إيجابياً في تعزيز قيم التوافق بين أبناء وطن ابتُلي في هذا العصر، بما لم يُبتلَ به أي شعب في العالم، وما زال في مرحلة النقاهة من طغيان يزيد عن خمسة عقود مُظلمة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات