شكل الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين خطوة مهمة إلى الأمام على طريق طويل، لو تحققت لها عوامل النجاح، لانتهت مشكلات المنطقة كلها من خلال مساعي البلدين، يُمكن البناء عليها نحو مستقبل بعيد. في الوقت نفسه، يبدو اتفاقا، مخفقاً، ولم يجف بعد الحبر الذي وقع عليه، ويمكن الرجوع عنه خلال أمد لن يطول.
بيد أن له ضرورات تفرضها ما وصلت إليه المنطقة من نزاعات وفوضى، تبشر بالمزيد من الخراب وحروب أشبه بحروب السبعين عاما الأوروبية. وهي تعني بالدرجة الأولى إيران والسعودية، وفيما بعد العراق وسوريا ولبنان، أي أن بلدنا على لائحة الأزمات، لكننا لن نتفاءل، ولو أوحى الاتفاق بانتهاء عذابات العرب وإيران أيضا، وفتح صفحة جديدة، من خلال بندين عمليين هما الوصول إلى تسوية في العراق وسوريا ولبنان والعمل على خروج الميليشيات الأجنبية منها، ونزع سلاح ميليشيات الداخل بإشراف مباشر من الصين.
فمثلاً، سيشمل نزع سلاح الميليشيات تجريد حزب الله من أسلحته وكذلك الحوثيين وعشرات من عصابات الشبيحة في سوريا والمتطرفة في العراق، وإيقاف الدعم الإيراني عنها، أي إنها بالنسبة لسوريا سقوط النظام. بالمناسبة، روسيا لن تقف في وجه هذا الحل ما دام أن امتيازاتها مضمونة، مع قواعد عسكرية، وإيجاد مخرج مما سيصبح المستنقع السوري لو حاولت البقاء، أما إيران فسوف تلتفت إلى شعبها، وتعالج مشكلات هي الأجدر بالتصدي لها من أجل رفاهيته بدلا من المغامرات خارج حدودها. إذا عناصر التوافق متوافرة من حيث الفوائد.
يعتمد نجاح تسويق الاتفاق في أنه يضع بنودا مثالية لحل الصراعات والخلافات في المنطقة، فالداء معروف والعلاج معروف. أما فشل الاتفاق نفسه، فيعود إلى العمل على إنجاحه باعتماد الضغوط خلال المفاوضات، إذ لا يمكن إحداث تقدم إلا بالقبول بمساومات وتنازلات، كذلك فيما بعد على الأرض، ثم ما تمارسه أجهزة مخابرات الدول الإقليمية والكبرى، والشطارات المخابراتية التي ستبتدعها، ذلك ليس في علم الغيب، بل ما حدث مرارا من قبل.
اللافت ذلك النشاط الذي لا يفتر في ترسيخ النفوذ الإيراني قبل الرحيل، هذا إذا أحسنا النية، وتوقعنا خروجها من سوريا، فالمتوقع بقاء نفوذها فعالا في الداخل، وكأنها لم تخرج، خلايا وتشييع وتطبير وعملاء، كما حدث عندما خرج الجيش السوري من لبنان، وكأنه لم يخرج، فالنفوذ السوري ترك وراءه أحزابا موالية ومخابرات وعملاء.
لا بأس من طرح مخاوفنا وهي مخاوف حقيقية ومن قبيل العمى عدم طرحها.. فأزمات المنطقة الرهيبة التي لم تجد حلا لها طوال عقود بقدر ما كانت تتأزم وتتفاقم، إلى حد تدخل دول وجدتها فرصة للاستثمار على أراضي الآخرين، باعتبارها ساحة صالحة للحرب، وتصفية حسابات، واستعادة إمبراطوريات مضى عليها قرونا، والتفاخر بتجربة فاعلية أسلحتها، بينما ستستغلها الحكومات الدكتاتورية، تحت غطاء التعاون للوصول إلى اتفاق، في تكريس النهب، ولن تعدم فرصا ذهبية لتكريس سلطات القمع والقتل، وكالمعتاد، لا من حساب ولا مساءلة. مقابل التخلي عن أية مسؤولية وطنية، فالنظام القائم زج سوريا بأربعة احتلالات من أجل بقائه. هل هناك سابقة شبيهة؟ وضحايا لا أقل من مليون قتيل، مورس خلالها عنف قل نظيره، وهناك أكثر من نصف شعبها مهجر ونازح.. هل هناك مأساة شبيهة بها؟ وفي الداخل سلطة كاريكاتورية تستثمر في الضحايا، الهدف منها تبييض جرائمها بالمظاهر الإنسانية والكلام المعسول، وهي مجرد تهريج، لكنها أشد من القتل.. إنها جريمة ضد الإنسانية. إضافة إلى تمزيق النسيج المجتمعي، وإحداث شرخ بين مكونات الشعب السوري. إلى حد بات استمرار النظام مديناً للعصابات، وتحويل الجيش إلى عصابة للنهب وحماية صناعة الكبتاغون.
أما عن الاتفاق، فليس من العبث القول إن الحل معروف منذ سنوات، لكنه عسير، طالما المستفيدون منه، لا يريدون التخلي عن أنظمة دفعت شعوب المنطقة إلى الجوع والبؤس. وإذا كان هناك من حل فسوف يكون على حساب الشعوب، وهي الطرف الأضعف، وغير الموجود على طاولة المفاوضات، وإذا افترض وجوده، فكي تكون التنازلات على حسابه، وإلا لم يكن هناك وفاق ولا توافق، لماذا؟ لأن الصين نفسها بلد دكتاتوري، لا يعترف بما يدعى "ديمقراطية"، فلماذا تطالب بها دكتاتوريات تافهة ومنحطة، لن تطلب منها سوى العمل على دكتاتورية مثالية، ولو كان بقتل مليون آخر من البشر، وتهجير المزيد من الملايين.
إذا أرادوا حلا سريعا ومضمونا، فليسمعوا أصوات السوريين تقول: اخرجوا من بلادنا وخذوا معكم هذا النظام الفاسد، ودعوا هذا الشعب يضمد جراحة ويبني دولته، طبعا هذا مستحيل، لكن لا حل من دونه.
هذا ما هو مطلوب من السوريين، لا من دول الاحتلال الأربع، ولا الدول الإقليمية، ولا من الصين، هؤلاء لا يفكرون إلا في مساعدة الدكتاتور على ممارسة صلاحياته كاملة.