نُشر مشروع الدستور في ساعة متأخرة من ليلة 30 جوان. كما كان متوقّعا، حمل المشروع كلّ بصمات قيس سعيّد. ليس فقط بصمات الفاعل السياسي المتصارع مع خصومه، الذي جعل من توطئة الدستور فضاء لتصفية حساباته وتبرير قراراته وكتابة تاريخه وتخليد ذكراه. ليس فقط بصمات المدرّس الشغوف بتاريخ القانون الدستوري، الذي عرض علينا في توطئة الدستور اكتشافات جديدة في تاريخنا الدستوري. وإنّما أيضا، وهذا الأهمّ، بصمات المرشح الذي يحمل منذ 2012 مشروعا، هو البناء القاعدي، وبصمات الرئيس الذي ضاق ذرعا بالسلط المضادّة وآثر تركّز السلطة بين يديه من دون رقيب أو حسيب.
النتيجة، نظام سياسي يصعب أن ينتج حدّا أدنى من الديمقراطية، في ظلّ انخرام تامّ لتوازن السلط لصالح رئيس الجمهوريّة، من شأنه أن يزيد اختلالا مع صدور المراسيم الانتخابيّة التي ستستكمل تطبيق مشروع البناء القاعدي. فقد أبقى سعيّد لنفسه، في الأحكام الانتقاليّة للمشروع، على السلطة التشريعيّة، بما يمنحه سلطة مطلقة في تنزيل أحكام دستوره واستكمال بنائه. ما كان واضحا عند قراءة المشروع، تأكّد بمقارنته مع المسودّة التي أعدّتها اللجنة الاستشاريّة، وعلى رأسها الصادق بلعيد، التي سمح نشرُها بتقفي أثر التعديلات التي أدخلها سعيّد بنفسه.
1- البناء القاعدي: وُضعت الأُسُس، في انتظار المراسيم
ليس مفاجئا أن يسعى الرئيس سعيّد لتطبيق مشروعه بعد إطاحته بدستور 2014. هو يرى في البناء القاعدي خلاصا ليس لتونس فقط، وإنّما للإنسانيّة جمعاء. وهو يرى فيه رجوعا لروح الثورة التي انحرفت بها منظومة الانتقال الديمقراطي. لكنّه تفادى بعناية، منذ 25 جويلية 2021، تبني مشروعه بوضوح، وفضّل تمريره تدريجيا، معتمدا أسلوب المواربة. باختصار، يقوم هذا المشروع على إجراء الانتخابات في مستوى العمادات وفق نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين، ليشكّل المنتخبون مجالس محليّة على مستوى كلّ معتمدية، على أن يصعد من كلّ مجلس محلّي، عبر أسلوب القرعة، ممثّلا في المجلس الجهوي على مستوى الولاية، وممثّلا في المجلس الوطني، مع خضوعهم جميعا لإمكانية سحب الوكالة من قِبَل ناخبيهم. كل ذلك مقابل رئيس منتخب مباشرة يحتكر السلطة التنفيذية، وهو الجانب الذي كثيرا ما يُغيّب عند تقديم المشروع، ولا يقبل أي محاسبة. وبالإضافة إلى الطابع الرئاسوي للنظام السياسي الذي كرّسه مشروع الدستور وسنأتي عليه فيما بعد، جاء باب “الوظيفة التشريعيّة” ليضع أسس البناء القاعدي، ويفتح المجال للمراسيم كي تستكمل البناء وفق إرادة الرئيس.
أوّلا: سحب الوكالة من النواب
كان من المنتظر أن ينصّ مشروع الدستور على امكانيّة سحب الوكالة من النواب. فقد كانت الاستشارة الوطنية، التي لم يكن هدفها سوى تمرير الخيارات الكبرى للبناء القاعدي وإلباسها رداء الإرادة الشعبيّة، فتحت الطريق لذلك. جاءت الأسئلة موجّهة بطريقة لإضفاء شرعيّة على الأضلع الثلاثة للمشروع، وهي نظام رئاسي، ونظام الاقتراع على الأفراد، وسحب الوكالة من النواب، بالإضافة إلى روحه، وهي الطابع المحلّي للحلول الاقتصاديّة. قيّد سعيّد لجنة صياغة الدستور بمخرجات الاستشارة، فكان متوقّعا أن نجد سحب الوكالة في مشروع الدستور.
بالفعل، نصّ الفصل 61 على أنّ “وكالة النائب قابلة للسحب وفق الشروط التي يحدّدها القانون الانتخابي”. قد يرى البعض في سحب الوكالة ضمانة ديمقراطية من شأنها إبقاء المنتخبين تحت المساءلة، لكنّها، بالإضافة إلى خطر عدم الاستقرار الذي دفع غالبية الأنظمة التي أقرتها (خصوصا في بعض الولايات الأمريكية) إلى الحدّ منها، تتضمّن خطرا أكبر داخل الهندسة السياسية التي يريدها سعيّد. إذ من شأنها أن تزيد من إضعاف السلطة التشريعيّة، وتحديدا النواب المعارضين، عبر إخضاعهم لسيف دمقليص حيث يُمكن للرئيس، بما يفترض أن يمتلكه من شعبية في كامل التراب الوطني، أن يدفع إلى عزل أي نائب يعارضه. خصوصا وأنّ الرئيس لا يخضع لهذه الآلية. فوكالته فوق أي إمكانيّة للسحب، ولو فقد دعم الغالبية الساحقة من الشعب.
ثانيا: المجلس الوطني للجهات والأقاليم
على عكس دستور 2014، تضمّن مشروع دستور سعيّد برلمانا مكونا من غرفتين: مجلس نواب الشعب، ومجلس وطني للجهات والأقاليم. ينتخب هذا الأخير من طرف المجالس الجهويّة، بحساب ثلاثة ممثلين عن كلّ جهة، وممثل عن كلّ إقليم. تحمل هذه الغرفة فلسفة البناء القاعدي، بعدم اعتمادها معيار التمثيل الديمغرافي، أي مقعد نيابي لكل عدد معيّن من السكّان، وإنّما تمثيل الجهات. يُمكن أن يكون ذلك مقبولا في غرفة برلمانية عُليا، دورها التشريعي ثانوي، ولو أنّ هذا المبدأ أقرب إلى الأنظمة الفدراليّة كالولايات المتحدة الأمريكية، أين يكون للمساواة بين الولايات مغزى أكبر.
لكنّ دور هذا المجلس ليس ثانويا، وإن كان منحصرا في قوانين المالية ومخططات التنمية بهدف “ضمان التوازن بين الجهات والأقاليم”. إذ اشترط المشروع للمصادقة عليها الأغلبية المطلقة لكلّ من المجلسين، على حدّ سواء، ولم ينصّ على أن تعود الكلمة الفصل إلى مجلس نواب الشعب، كما في كلّ البرلمانات المكوّنة من غرفتين في التجارب المقارنة. لا يعني ذلك فقط خطر تحوّل المجلس الثاني إلى غرفة منافسة للأولى، ولكن أيضا خطر عدم الاستقرار في حال لم يتّفق المجلسان. اكتفى مشروع الدستور بالإحالة على قانون، وعلى الأرجح مرسوم من سعيّد، سينظّم العلاقة بين المجلسين، وهو ما يبقي السؤال قائما، والخيار لدى الرئيس عبر سلطة المراسيم.
ثالثا: حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب
لم يكتفِ مشروع الدستور بإخضاع المجلس النيابي الثاني لفلسفة البناء القاعدي، وإنّما حذف شرط الانتخاب المباشر للمجلس النيابي الأوّل. يعني ذلك أنّ مجلس نواب الشعب، قد يكون هو الآخر منتخبا بطريقة غير مباشرة، وهو ما يتضمنه مشروع البناء القاعدي. ما يؤكّد هذه النيّة المبيّتة، هو أنّ شرط الانتخاب المباشر ورد في المشروع ذاته في علاقة بانتخاب رئيس الجمهورية، والأهمّ، أنّه كان موجودا في الفصل 54 من مسودّة الهيئة الاستشاريّة بما يتّصل بكيفية انتخاب المجلس النيابي. تاليا، لم يكن حذفه مجرّد سهو، بل كان متعمّدا.
يعني ذلك أنّ طريقة انتخاب مجلس نواب الشعب ستخضع كلّيا لاختيار الرئيس عبر سلطة المراسيم، من دون أيّ قيود دستوريّة. كما يعني مزيد إضعاف السلطة التشريعيّة، حيث يحتكر الرئيس المشروعيّة الشعبية المباشرة، في حين يصعد النواب بطريقة غير مباشرة، بل وعبر القرعة من بين نواب العمادات، أي عبر لعبة الحظ التي لا تعترف بالتوازنات السياسيّة التي أفرزتها الانتخابات، وهو ما يتوافق مع مشروع يعتقد في نهاية عهد الأحزاب السياسيّة.
رابعا: التخلّي عن اللامركزية، ودسترة “المجالس المحلّية”
من بين بصمات الرئيس في علاقة بالبناء القاعدي، نجد أيضا الإحالة في الفصل 75 الذي يضبط مجال القانون، على “مجالس محلّية”، تضاف إلى المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. ففي حين يتحدّث الفصل 133 المتعلّق بالجماعات المحليّة والجهوية عن مجالس بلديّة، تتأتى عبارة “مجالس محلّية” من مشروع البناء القاعدي، حيث تتكون وفقه على مستوى المعتمديات لا البلديات، ويقعُ منها تصعيد أعضاء المجلس النيابي. في نسخة بلعيد، كان الفصل 75 يتحدّث عن الجماعات العمومية المحلية والجهوية، وهو ما يؤكد، مرّة أخرى، النيّة المبيتة لدى الرئيس لتنزيل مشروعه.
بالتوازي مع ذلك، وقع التخلّي عن اللامركزيّة التي كرّسها دستور 2014، لصالح فصل وحيد حول الجماعات المحلّية يكتفي بالإحالة إلى القانون، في صياغة شبيهة بدستور 1959. فلامركزيّة البناء القاعدي تخصّ فقط السلطة التشريعية، عبر “المجالس المحلّية”، في حين تخضع السلطة التنفيذية لمركزية مفرطة بين يدي رئيس الدولة. فالمشروع الذي يعد بديمقراطية جذرية يحكم فيها الشعب نفسه، يقوم في الواقع على احتكار السلطة من طرف شخص واحد.
2- نظام رئاسوي بالنصّ قبل الممارسة
لئن كان النظام الرئاسي يصنّف ضمن الأنظمة التي تكرّس الفصل بين السلط، إلاّ أنّه حامل بطبعه خطر الانحراف عند التطبيق إلى الرئاسويّة. إذ لم ينجح النظام الرئاسي في بناء ديمقراطية مستقرّة سوى في الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى خصوصيات أمريكية يصعب تكرارها، كالفدراليّة والثنائيّة الحزبيّة المثلى والانتخابات النصفيّة (midterms) التي تجعل من الرئيس في معظم الأحيان غير متحكّم في أغلبية الكونغرس وتمنع الانحراف إلى الرئاسويّة. في تونس، أصبح النظام الرئاسي في السنوات الأخيرة يقدّم كطوق النجاة الوحيد من الأزمات السياسية وحالة الشلل، استنادًا إلى تشخيص خاطئ مبني على مجرّد انطباعات يحمّل دستور 2014 مسؤوليّة الفشل السياسي.
إلاّ أنّ النظام الذي أرساه مشروع سعيّد لا يحتاج انتظار التطبيق كي يظهر طابعه الرئاسوي. فهو لا يقوم فقط على رئيس منتخب مباشرة من الشعب، يتحكّم تماما في السلطة التنفيذية، إذ يمارسها بمساعدة حكومة يعيّنها ويقيل رئيسها وأعضاءها كما يشاء. وإنّما يكرّس رئيسا منزّها عن أيّ مسؤوليّة أو رقابة. يفعل ما يشاء ولا يساءل أبدا, بكلام آخر، يختلّ في هذا النظام توازن السلط تماما لصالح الرئيس. فإذا كان سعيّد حَذَفَ لفظ “السلط” تماشيا مع خطابه طيلة الأشهر الماضية المناهض لفكرة “السلطة القضائيّة”، فإنّ السلطة التنفيذية، على عكس البقيّة، تبقى بالضرورة سلطة بقوّة الإدارة والسلاح، خاصّة إذا حُصّنت من رقابة السلط المضادّة التي ستكون في الواقع كما في النصّ، مجرّد “وظائف”.
أولا: (لا) مسؤوليّة الحكومة أمام البرلمان
إذا كانت المسؤولية السياسيّة للحكومة أمام البرلمان من خصائص النظام البرلماني، فإنّ أحكام مشروع الدستور المتعلّقة بمسؤوليّة الحكومة تعبّر عن الروح الرئاسويّة للنظام. إذ لا يمكن للبرلمان توجيه لائحة لوم للحكومة، إلاّ من أجل “مخالفة السياسة العامّة للدولة والاختيارات الأساسيّة المنصوص عليها بالدستور”. فهي ليست مسؤوليّة سياسيّة، بما أنّها مرتبطة بمخالفة الدستور، وهي على الأخصّ، لا تحاسب السياسة العامّة التي يختصّ رئيس الجمهوريّة بضبطها، وإنّما تحاسب الحكومة على عدم تنفيذها بشكل جيّد. فهي، رمزيّا، مسؤوليّة تنتصر لرئيس الجمهوريّة ضدّ حكومته.
كما أنّ شروط تفعيل هذه المسؤوليّة شبه مستحيلة. إذ تقتضي لائحةً ممضاة من الأغلبية المطلقة للمجلسين معا، وتصويتًا بأغلبية الثلثين في المجلسين، وهما شرطان تعجيزيّان. في الحقيقة، فكرة اشتراط الثلثين لإسقاط الحكومة من طرف البرلمان ليست جديدة في تونس، إذ حاولت حركة النهضة تمريرها في التنظيم المؤقت للسلط بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 2011، قبل أن تضطرّ للتنازل عنها. كما كانت من مخرجات الحوار الوطني سنة 2013 تحصينا لحكومة المهدي جمعة من إمكانيّة إسقاطها من طرف الأغلبية داخل المجلس. وها سعيّد يسعى للهدف ذاته، وهو تحصين حكوماته من أيّ مسؤوليّة أمام البرلمان، خاصّة وأنّ مشروع الهيئة الاستشاريّة كان يشترط فقط الأغلبية المطلقة من مجلس نيابي واحد.
حتى في صورة نجاح أغلبية معارضة للرئيس داخل المجلسين في توجيه لائحة لوم للحكومة أكثر من مرّة خلال نفس المدّة النيابيّة، يصبح للرئيس الخيار بين قبول استقالة الحكومة أو حلّ أحد المجالس النيابيّة أو كليهما. أي أنّ الكلمة العليا دائما للرئيس، وإذا وجد برلمان معارض له حاول الإطاحة بحكوماته، فسيكون تحت طائلة الحلّ، وهو ما يزيد من تكريس الطابع الرئاسوي. فرضية حلّ البرلمان غير ممكنة أبدا في نظام رئاسي، وهي من خاصّيات النظام البرلماني.
ثانيا: لامسؤوليّة مطلقة للرئيس
تبقى العلامة الأبرز لرئاسويّة النظام السياسي، هي لا مسؤولية الرئيس. فمن البيّن أنه تمّ تنحيّة الفكرة التي تحدّث عنها خبيرا الهيئة الاستشاريّة، الصادق بلعيد وأمين محفوظ في الإعلام، وهي إجبار رئيس الجمهورية على الاستقالة في حالة المصادقة على لائحة لوم ضد حكوماته لمرّتين في مدّة واحدة، وهي فكرة كان قيس سعيّد الخبير الدستوري يدافع عنها، ولم تعد تلائم قيس سعيّد الرئيس الحاكم بأمره.
لكنّ الأخطر من لا مسؤولية الرئيس السياسية، هي لا مسؤوليّته في حالة الخرق الجسيم للدستور. لا يشكّل ذلك فقط تراجعا على دستور 2014، وإنما على جلّ الدساتير في العالم بغضّ النظر عن نظامها السياسي، وأبرزها النظام الرئاسي الأمريكي الذي يتضمن امكانيّة عزل الرئيس (impeachment). هذا الإجراء كان موجودا في دستور 2014، حيث يوجّه الاتهام من قبل المجلس النيابي بأغلبية الثلثين، وتحكم المحكمة الدستورية بالإدانة والعزل بأغلبية الثلثين أيضا. وقد استنسخته الهيئة الاستشاريّة في الفصل 92 من مشروعها، إلاّ أنّ قيس سعيّد حذفه مع سبق الإصرار والتصميم. يعني ذلك ببساطة، أنّه لا يريد أي محاسبة أو امكانيّة للعزل، حتى ولو في حالة خرقه الدستور خرقا جسيما، حتى وإن كان يتحكّم هو نفسه في تركيبة المحكمة الدستورية. هو رئيس ليس فقط فوق جميع السلط أو الوظائف، وإنّما هو أيضا فوق الدستور.
ثالثا: سلطة الاستثناء خالية من أي تقييد
تتأكد لامسؤوليّة الرئيس أمام خرق للدستور في الفصل 96 المتعلّق بالحالة الاستثنائيّة، أي نظير الفصل 80 من دستور 2014. فقد أحدث سعيّد تغييرا جوهريا على الفصل، بالمقارنة ليس فقط مع صيغة الفصل 80، وإنما أيضا بالمقارنة مع نسخة الهيئة الاستشارية. من جهة، حذف سعيّد رقابة المحكمة الدستوريّة حول تواصل الحالة الاستثنائيّة. يعني ذلك أنّ الرئيس سيّد نفسه ليس فقط في الإعلان عن الحالة الاستثنائيّة، بل وفي تواصلها. فلا يمكن لأحد سواه أن يضع حدّا لها. حتّى بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم، التي ينصّ عليها الفصل 80 من دستور 2014 وهي وحدها كافية لاعتبار إعلان 25 جويلية 2021 خروجا عن الدستور، لم تعد موجودة. بهذا الشكل، يمكن للرئيس التعلّل بالحالة الاستثنائيّة لعدم إجراء انتخابات رئاسيّة مثلا، دون أيّ امكانيّة لإنهائها ولا لعزله. يبدو أنّ سعيّد أعجبته سلطة الحالة الاستثنائيّة وأراد إطلاقها وتأبيدها متى أراد، عبر حذف أي حدّ ممكن لها، وهو ما يعني، من دون الحاجة إلى قراءة الفصول الأخرى، دسترة الدكتاتورية الدائمة.
رابعا: رئيس يتحكّم في القضاء
لم يكتف سعيّد بتحجيم دور البرلمان، وإنّما كرّس سيطرته على القضاء. فهي مجرّد وظيفة، وليست سلطة. حتّى التنصيص على استقلالها لا يضمن الشيء الكثير، في غياب الضمانة المؤسساتية التي كان يمثّلها المجلس الأعلى للقضاء، الذي يتكون بدرجة أولى من قضاة منتخبين من زملائهم بالإضافة إلى ممثلين منتخبين عن المهن الأخرى المتصلة بالقضاء. اكتفى مشروع سعيّد بالحديث عن مجلس قضاء أعلى لكلّ نوع من القضاء (عدلي، إداري، مالي)، من دون أيّ قواعد حول تكوينها، مما يمهّد إلى تنصيب مجالس خاضعة له كما فعل خلال الأشهر الماضية. كما تخلّى عن آلية تسمية القضاة برأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء، واكتفى ب”ترشيح” يبقي للرئيس حرّية الاختيار.
ولا حاجة للخوض في بقيّة التفاصيل، ولا للتذكير بالحصيلة الحاليّة للرئيس في علاقته بالقضاء، كي نفهم أنّ الهدف هو نسف استقلالية القضاء. الأمر ذاته ينطبق على المحكمة الدستوريّة، التي لم يكتف سعيّد بتحجيم صلاحياتها، بل أصبحت تتكون من 9 أعضاء جميعهم “من أقدم القضاة”، أي أنّ الرئيس سيتحكّم في تعيينها إن لم يكن مباشرة، فبطريقة غير مباشرة. أمّا الهيئات الدستوريّة، فلم ينجُ منها سوى هيئة الانتخابات، لكن من دون ضمانات الاستقلالية التي كانت موجودة في دستور 2014، وعلى رأسها انتخاب الأعضاء من قبل المجلس النيابي بأغلبية معزّزة. بهذا الشكل، لا شيء يمنع تعيين أعضاء هيئة الانتخابات جميعهم من قِبل رئيس الدولة، كما فعل سعيّد نفسه في مرسوم 21 أفريل 2022. وبالتوازي مع إلغائه هيئات الاتصال السمعي والبصري، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، ومكافحة الفساد التي نصّ عليها دستور 2014، انتهز سعيّد فرصة انفراده بالتأسيس كي يحقّق أمنيته العزيزة على قلبه، التي ينادي بها منذ 2011، وهي دسترة مجلس أعلى للتربية والتعليم.
خامسا: رئيس يستفتي الشعب مباشرة
على عكس دستور 2014 الذي فرض المرور عبر البرلمان كمحطّة اجبارية قبل أيّ استفتاء تشريعي أو دستوري، حرص الرئيس في مشروعه على فتح طريق استفتاء الشعب. إذ يجوز له أن يعرض مشاريع تعديل الدستور مباشرة على الشعب، من دون تداول برلماني. من شأن ذلك أن يفتح المجال لإضافة صلاحيات جديدة والتلاعب بالقواعد الدستورية التي وضعها على مقاسه. ولا يغيّر من ذلك صلاحية المحكمة الدستورية في فحص مشروع التعديل، للتثبت مما لا يجوز تعديله، أي النظام الجمهوري وعدد المدد الرئاسيّة ومكتسبات الحقوق والحريات، طالما أن هذا الفحص المسبق لا يتناول صلاحيات الرئيس ولا صلاحيات السلطات الأخرى ولا يحول بالنتيجة دون تعزيز الطابع الرئاسوي للنظام. كذلك أعطيِ الرئيس إمكانية إجراء الاستفتاء التشريعي بشأن قوانين متعلّقة بالموافقة على معاهدات “يمكن أن يكون لها تأثير على سير المؤسسات”، أو ب”تنظيم السلط العموميّة”. ومن شأن هذه الصلاحية أن تمنحه مجالا أكبر للمساس بتنظيم السلط الذي اختاره هو نفسه. فالاستفتاء، كما كان يردّد سعيّد الخبير الدستوري، هو في أحيان كثيرة “أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكّرة”.
إنّ الهندسة الدستوريّة التي وضعها سعيّد تعكس نزعة واضحة ومفضوحة للاستبداد بكلّ السلطة. فهي هندسة لا علاقة لها بالنظام الرئاسي، الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلط، والذي يكون فيه البرلمان سلطة عليا لا يمكن التدخّل فيها. مشروع سعيّد يقوم على العكس من ذلك على إضعاف البرلمان، ويكفي تغييب التنصيص على استقلاليته المالية والإدارية لتأكيد ذلك. إضعاف سيتفاقم أكثر فأكثر بالمراسيم التي ستعوض القانون الانتخابي، حيث يتأهب سعيّد لفرض نظام الاقتراع على الأفراد في العمادات وتصعيد النواب بطريقة غير مباشرة، تطبيقا لمشروعه. وها نحن اليوم وجها لوجه مع رئيس انتخب ليحمي الدستور الذي أقسم على احترامه، فاغتصب السلطة لفرض مشروعه الشخصي وتأبيد حُكمه، والارتداد على كلّ المكاسب التي تحقّقت منذ الثورة التي يدّعي الانتصار لها.