كان يمكن أن أقول أوووف لأن صبري نفد فعلا بسبب تأخر صدور الكتاب الذي يريد أن يفهم كيف قادت الثورة التونسية إلى المحنة فإذا بمسار صدوره يتحول بدوره إلى أحد تجليات هذه المحنة. كتاب أردناه عملا جادا ومهنيا يحترم القرّاء فإذا به يتخلف عن معرض دولي للكتاب طغت على أخباره عناوين الضجة والإثارة.
لنعد إلى المحنة الأصل، محنة تونس: فرغم إنحدارنا من اليسار الماركسي الذي تشبعنا بفكره خلال السبعينات، قادتنا كل من الممارسة السياسية والمعرفة السوسيولوجية إلى مقاربة نقدية ومتبصرة لظاهرة الثورات. فمنذ الثمانينات لم يعد الرهان بالنسبة لنا في المزايدات الثورية وإنما في إدراك حجم الخسائر بل الدمار الذي يمكن أن تلحقه أي ثورة بمكاسب الدولة الوطنية وحتى بالمكاسب الحضارية والمدنية.
يمكن تلخيص جوهر الفكر الماركسي في مقولة أن الثورة هي ولاّدة التاريخ، ولكن القراءة الحصيفة للتاريخ تعلمنا أن الثورة تفتح أيضا على العفوية والفوضى والعنف وعلى المجهول، مما لا يمكن الحد من أثاره السلبية إلا بتوفر شروط في مقدمتها قيادة للثورة تجمع بين الإنغراس الشعبي وبعد النظر وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفئوية والفردية، وهو شرط غاب في الحالة التونسية.
وفي المقابل كان نجاح المسار يتطلب الإقدام على ما نسميه إصلاحات ثورية تشمل تغيير نمط الحكم وتوزيع السلطة، وتفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية وتوفير سبل العيش الكريم بفضل العمل المنتج وإعادة هيكلة الاقتصاد. بدلا من ذلك إقتصر أمرنا على إقامة ديمقراطية تمثيلية ليبرالية مخترقة من الفساد وحكومات تحاصرها المطلبية وتعجز عن قيادة المجتمع لتحقيق التنمية.
آفات ضربت التجربة الثورية والديمقراطية التونسية في الصميم وأفرزت تيارا شعبويا كاسحا يتوهم ويوهم التونسيين بأنه يمكن البرء منها بالقضاء على الديمقراطية التعددية نفسها متجاهلا أنه في غياب الحريات تستحيل مكافحة الفساد بنجاح. هذه هي اللحظة الحرجة التي تعيشها تونس اليوم والتي لا يحكم عليها الكتاب بقدر ما يحاول فهم خصائصها وتمظهراتها والمسارات التي قادت إليها، متسلحا قدر الإمكان بنظريات ومفاهيم علم الاجتماع السياسي.
أملنا أن يشجعنا أهل الثقافة والفكر والسياسة أيضا بالإقبال على قراءة الكتاب وبالتفاعل مع ما يقترحه من قراءات في الثورة وفي ما كتب عنها.