كيف نفسر إصطفاف مكونات التيار القومي العربي بتونس دون قيد ولا شرط ودون إتخاذ أي مسافة نقدية، إلى جانب الرئيس قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021، وبالخصوص منذ صدور المرسوم 117 الذي أستهدف مسار الإنتقال الديموقراطي وضرب إستقلالية المؤسسات الدستورية وعمد إلى خنق الحريات التي شكلت المكسب الوحيد للثورة التونسية، وما تلاه من إعتقال تعسفي لعدد من قيادات المعارضة؟ وهل من مبرر مقنع لسكوت أغلب مكونات الطيف القومي عن تعديات مفضوحة طالت عددا من شركائها في النضال الديموقراطي والوطني والقومي؟سؤال يلح علينا منذ أشهر عدة أجلنا طرحه حتى لا يسيئ البعض فهمنا ويتهمنا بمعاداة الأحزاب القومية العربية في تونس، وكذلك أملا في عودة الوعي لأصدقائنا القوميين، ولكن بشائر الرشد بقيت ضئيلة.
لنستدرك أولا بأننا لا نقصد كل القوميين في تونس ونحن نعلم أن بعضهم عبر بوضوح عن تباينه مع الموقف السائد، ولنوضح أيضا أننا نتحدث عن القوميين تحديدا وليس عن الوحدويين الذين نعد أنفسنا من بينهم والذين يشاركون في حلم توحيد مكونات الأمة العربية والمجتمع العربي من دون تبني المنظومة الإيديولوجية التي تؤسس كل مواقفها على إعتبار القومية العربية بمثابة الحقيقة الأولى والأخيرة والعامل المفسر لتاريخنا قبل أو دون العوامل الدينية والطبقية والجيوسياسية وغيرها. كما نضيف أننا نتحدث عن إيديولوجية وظيفتها التبرير أو حجب الواقع وإخفاء حقيقة العلاقات أو الأهداف التي تضمرها النخبة المنتجة لهذه الإيديولوجيا، وإلى حد يجعلها متعارضة مع الخطاب المعلن وستارا على تسلط عصبيات قومية وعرقية أو أقليات مذهبية أو بيروقراطيات عسكرية بإسم الدفاع عن العروبة.
إذا حاولنا فهم الدوافع التي جعلت فصائل مثل التيار الشعبي وحركة الشعب وحزب البعث بجناحيه العراقي والسوري تنحاز لنهج الرئيس قيس سعيد-ولا نقول لمشروعه الهلامي-دون إحترازات تذكر سنجد أن لهذا الموقف عدة أسباب ولكن ميولات قيس سعيد العروبية ليست في مقدمتها، علما بأن النزوع الوحدوي لم يكن كافيا للحفاظ على وحدة هذه الأحزاب ذاتها. بتقديرنا أن العداوة الشديدة للإسلاميين وتحديدا لحركة النهضة هي أبرز قاسم مشترك وأبرز سبب لدعم أغلبية القوميين لسياسة وشخص قيس سعيد. وحتى على هذا المستوى فإن سبب الإلتقاء يختلف: فهو عند القوميين إستمرار لعداوة إيديولوجية ضارية تشتغل على إحياء ذاكرة الصدام بين نظامي جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين، وتوظف في هذا السياق التطورات المأساوية التي تلت الإنتفاضة الشعبية بسوريا سنة 2011 وحكم الإخوان بمصر سنة 2013. أما بالنسبة للرئيس قيس سعيد فإن خصومته مع قيادة النهضة سياسية بالأساس موضوعها التنافس الحاد على إحتكار السلطة وأسلوب إدارة الدولة، وليست بسبب الإنتماء الفكري أو الثقافي، علما أن سعيد ليس أقل محافظة من حركة النهضة وأن مرجعياته وأفقه الفكري لا تختلف في عديد النواحي عن مرجعيات الإسلاميين وإنشدادهم إلى الماضي والسلف، وهو ما يشهد به دستوره وموقفه من مسألة الإرث.
منذ 25 جويلية ألتقت عدة أطراف في عملية إلتفاف تريد الثأر مما سمته العشرية السوداء وتجمع في موقف إستئصالي ومناهض للتعددية والإختلاف كتلتين متنافستين ومتواطئتين في نفس الوقت: نعني الحزب الدستوري الحر وأنصاره من جهة ومن جهة أخرى الفصائل القومية واليسراوية التي تتقرب من الرئيس خدمة لأغراض حزبية وفئوية وشخصية. ما يجمع كل هذه الأطياف هو النزعة الإقصائية المميزة للإيديولوجيات الشمولية. والواقع أن كل المنظومات الإيديولوجية المنغلقة على حقائقها اليقينية المزعومة تتعسف على تنوع الواقع وتعقده، وتميل إلى الحلول الأحادية والقصووية وتقسم المجتمع أو تعمق فجواته لأنها لا تؤمن أصلا بالتسويات أو الحلول الوسطى والإدماجية.
هذا ما نخرج به من دروس التاريخ الحديث على الصعيد العالمي ككل وعلى الصعيدين العربي والوطني أيضا. فكل من المشروع القومي العربي والمشروع الشيوعي والمشروع الإسلاموي حاولت إلغاء الآخر بوصفه النقيض والعدو وقدمت نفسها كبديل، ولكنها لم تلق رواجا بسب غربتها عن النسيج الثقافي المحلي ( الشيوعية) أو باءت بالفشل بسبب تطبيقها بطريقة فوقية وتعسفية بدل إعتماد التدرج والواقعية وإعتبار تنوع تركيبة المجتمع وتعدد الإتجاهات الثقافية داخله ( أنظر تجارب الإخوان المسلمين في السودان وإلى حد ما في مصر والنتائج الكارثية لأسلوب حكم البعث العربي في العراق وسوريا ولنمط حكم القذافي في ليبيا )، وفي حالات أخرى قادت محاولة فرض هذه المشاريع بالعنف المسلح إلى إرتكاب مذابح وجرائم بشعة ضد الإنسانية ( الحرب الأهلية بالجزائر وبسوريا ). ولا شك أن الإيديولوجية الليبرالية عجزت أن تكون بديلا مقبولا للمشاريع الثلاثة الأخرى سواء بسبب تجاهلها للمسألة الإجتماعية أو لتكريسها حالة من التبعية للغرب ولكنها بسبب أرضيتها الفلسفية والقيمية هي أقل المنظومات تعسفا وأكثرها مرونة وقدرة على الإصلاح الذاتي.
ضمن هذا السياق العام لا نستغرب كون النخب والأحزاب التي إعتمدت إيديولوجية كليانية لتبرير أهدافها ومشاريعها-لم تعط قيمة للحريات سواء العامة منها أو الفردية وذلك طيلة عقود. بيد أن تراكم التجارب المريرة والتحولات التي طرأت على الساحة الدولية منذ الثمانينات (إنهيار المعسكر الشيوعي عقب تفكك الإتحاد السوفياتي والصراعات القومية التي تلت ذلك) دفعت هذه الأطراف إلى مراجعة مسلّماتها والشروع في التحرر من القوالب الفكرية الجامدة وطوباويات الأمة الدينية والأمة القومية ووحدة البروليتارية العالمية، ومن ثمة الإنفتاح على مبادئ الحرية وحقوق الإنسان.
تقدم تونس مثالا نموذجيا على هذا التطور: فقد إنخرطت أجنحة من اليسار في مراجعة المسلمات الشمولية للفكر الشيوعي وتنظيماته التونسية وهو ما بادر به التجمع الإشتراكي التقدمي، الديموقراطي التقدمي لاحقا بخصوص الموقف من مسألة الحريات والمسألة الدينية وشروط نجاح أي بناء إشتراكي، ثم تلاه الحزب الشيوعي التونسي بتأييده تيار البرسترويكا وفكرة التعددية، وحتى حزب العمال فقد عرف مراجعات عدل بها مواقفه السابقة المعادية بشدة لما كان الزعيم لينين يصفه بالحريات الديموقراطية البرجوازية، وكذلك ما يخص التعامل السياسي مع الفصيل الإسلاموي بتونس. وبالتوازي مع ذلك حصل تطور صلب الحركة الإسلامية بظهور التيار التقدمي صلب الإتجاه الإسلامي وإنشقاقه عنه ثم إنفتاح هذا الأخير تدريجيا على الفكر الإصلاحي التونسي وعلى الإصلاحات البورقيبية في مجال الأحوال الشخصية ووضعية المرأة وكذلك أخذه بجانب لا بأس به من مبادئ المنظومة السياسية والحقوقية الليبرالية وهو ما جعل حزب حركة النهضة يبتعد كثيرا عن أرضية وبرنامج حركة الإخوان المسلمين العاملة على إرساء دولة الشريعة. في المقابل بقي التيار القومي في أغلب مكوناته وإن بدرجات مختلفة مشدودا إلى الماضي عندما يتعق الشأن بقبول مقتضيات التعددية وبخاصة التعاطي مع الإسلاميين رغم كونهم يشكلون طرفا أساسيا في الساحة الثقافية والسياسية حاول بن علي إلغاءه دون جدوى.
الغريب أن التيار القومي بتونس له في تاريخه ما يفترض أن يدفعه إلى الدفاع عن الحريات الديمقراطية وعن التعددية دون إقصاء لأي طرف كان. نتحدث عن محاكمة حزب البعث سنة 1968 وما تلاها طيلة العقود اللاحقة من تضييق سياسي ومضايقات أمنية كان من آخرها إعتقال المحامي البشير الصيد. ففي وضع التشتت التنظيمي ولأجل قطع الطريق أمام محاولة الصيد ومن معه تكوين حزب قومي يحضى بترخيص العمل في إطار القانون، تم تكوين الإتحاد الديمقراطي الوحدوي بدفع من الرئيس بن علي ونصب التجمعي عبد الرحمان التليلي على رأسه ثم خلفه من كان يحضى برضاء السلطان وإشتغل معه بعض من أصبحوا اليوم عتاة في تبرير القمع والإستبداد، وإستمر الأمر على تلك الوتيرة حتى تشكل التيار الشعبي حزبا مستقلا عن السلطة لينقسم لاحقا بخروج حركة الشعب.
كان من المفروض أن يقود هذا المسار إلى تعزيز حضور مبادئ الديموقراطية التعددية والتخلص من النزعة الإقصائية في فكر وممارسة التيار القومي بتونس، بيد أن ذلك لم يحصل إلا في حدود ضيقة جدا.
ثمة ما يفسر ذلك في مسلّمات وفلسفة منظري وقادة الأحزاب والأنظمة القومية. فرواد الحركة القومية ورموز التيار القومي لم يعطوا أهمية لمسألة الحريات السياسية وللتعددية وهي المرتبطة في رأيهم بالليبرالية والإستعمار والرجعية العربية (علما بأن موقف الشيوعيين والإسلاميين من هذه المسألة كان مشابها). رموز القومية العربية إنشغلوا بقضية التجزئة وسعوا إلى تحقيق الوحدة بكل ثمن. في تلك المرحلة إشتغلت الإيديولوجية القومية العربية كخطاب تبريري لمحاولات التغيير بطريقة الإنقلاب وما تلا بعضها من أعمال إنتقامية كما حصل من البعثيين إزاء الشيوعيين العراقيين الذين دعموا نظام عبد الكريم قاسم. التاريخ يشهد بأن الأحزاب والقيادات القومية من العراق إلى ليبيا أرست أنظمة دكتاتورية لا يقلل من وطأة إستبدادها توجهها المعادي للإستعمار وما حققه بعضها من منجزات إنمائية وفي مجال توزيع الثروة. كما أنها خلفت إرثا ثقيلا من العداوة للتيارات الليبرالية والماركسية والإسلاموية.
وإلى هذا العنصر الذي يشمل المحيط العربي إنضافت في تونس وفي ظل حكم الترويكا قضية بل فتنة إغتيال المناضل القومي محمد البراهمي (علاوة على المناضل شكري بلعيد). قضية شائكة لم تتضح خيوطها ولا يبدو أن إستجلاء الحقيقة بصددها قريب المنال إذا إعتبرنا ما يقال عن دور مخابرات أجنبية. بيد أن الفصائل القومية الناصرية وبعض مكونات الوطد تصر على توخيه الإتهام لقيادة حركة النهضة بالضلوع في تلك الجريمة. لا نعرف هل ستنجلي الحقيقة ومتى لكن الثابت أن تلك المأساة مثلت سببا إضافيا لمزيد تقسيم الساحة السياسية وإستفحال العداوات الإديولوجية كما أعطت لبعض الأطراف فرصة التوظيف السياسي لهذه القضية، الأمر الذي يلقي الضوء على الإصطفافات الحالية.
من المفارقات أن الإسلاميين في تونس كان لهم دور مهم في إرساء المسار الإنتقالي نحو الديمقراطية إلى جانب الأطراف التي ناضلت لأجلها منذ العهد البورقيبي وكذلك بمساهمة نداء تونس، من حقنا أن نعيب على الإنتقال الديمقراطي التي عرفته عشرية 2012-2021 طابعه الليبرلي المفرط الذي جعله يتم في غياب الإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية التني تقتضيها.
أوضاع البلاد كما أفضى إلى سلسة من التوافقات السياسية الإنتهازية مع أطراف لا علاقة لها بالثورة لا من قريب ولا من بعيد وإن كانت لها علاقة بالثروة المشبوهة في الغالب، توافقات على توزيع السلطة والغنيمة فتحت الباب واسعا أمام تنامي الفساد أو دمقرطته على حد تعبير البعض. لكن لا ينبغي أن يغيب عنا أن ما سمتها بعض الأطراف بالعشرية السوداء قد ترافقت مع ترسيخ المكسب الوحيد الذي أثمرته الثورة نقصد مكتسب الحريات العامة والفردية الواسعة بل الأوسع على الإطلاق في الساحتين العربية والإسلامية. هذه حقيقة موضوعية يسجلها التاريخ، كما يسجل أن التيار الشعبوي بقيادة الرئيس قيس سعيد إتخذ من سلبيات تلك العشرية مبررا للإنتقاض على الديمقراطية التعددية وجعل مظاهر تقصيرها تعلة للتخلص منها بدلا من إصلاحها، وأن أغلبية الأطراف القومية دعمت هذا النكوص وقدمت له كل المبررات.
نحن لا نناقش هنا ضرورة المساءلة والمحاسبة لكل من أضر بتونس وتجاوز القانون. فلا أحد تعلو مصلحته على مصلحة البلاد، وإنما يتعلق الأمر بالأسلوب الذي يدار به الشأن العام والوطني. فلإن كان خوض المعركة ضد الفساد والتجاوزات والخروقات وكذا حفظ مقدرات البلاد والسيادة الوطنية أمرا ضروريا ومطلوبا بإلحاح، فإن هذا العمل لا يكتسب شرعية كافية إلا بمشاركة مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين دون إقصاء. كل الأطراف التي لها ما تقدمه من أجل تونس أفضل يجب أن تمكن من ممارسة حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة ومن التمتع بحرية التعبير عن مواقفها دون الخشية من التعرض لحملات التشويه والإتهامات التي سرعان ما تفتح على ممارسات تعسفية وإعتداءات فضة على غرار ما تعرض له النشطاء السياسيون الموقوفون منذ شهر فيفري من إعتقال تعسفي وإحالتهم بمقتضى قانون الإرهاب وبتهمة التآمر.
من المؤسف أن بعض القيادات الأحزاب القومية قد تسرعت بإنضمامها إلى الجوقة الرسمية التي تتهم عددا من رموز المعارضة راسخة القدم في الدفاع عن الديمقراطية والدولة المدنية والتداول السلمي على الحكم-بالتآمر على أمن الدولة وهي تهم لا أساس لها بل هي من صنع التوهم ووسواس المآمرات. حتى القيادات التي لم تروج لتهمة التآمر المزعوم فقد سكتت لأشهر عن هذا الإعتداء الغاشم على الحق والحرية قبل أن تعبر عن تحفضاتها أو عدم موافقتها بغاية الإحتشام وبإنتقائية كاشفة بذلك المصلحة الحزبية المحظة تحتل عندها الأولوية عن القيم والمبادئ السامية.
ألم يئن الأوان لكي يقف المناضلون القوميون النزهاء وقفة شجاعة إزاء هذه الممارسات التعسفية المفضوحة وما يجري من محاولات تجيير السلطة القضائية لخدمة السلطة التنفيذية، وأن يعملوا على إعادة توجيه بوصلة الحركة القومية حتى تنسجم مع بنود الإعلام العالمي لحقوق الإنسان ولم لا مع ما أقره الدستور التونسي لسنة 2014 من حقوق وحريات وضمانات، هذا الدستور الذي شاركوا في صنعه ولم يفرض عليهم بقرار فردي والذي يمثل مكسبا لتونس رغم ما نواقصه وما يمكن أن يقال عن ضرورة تعديله في بابي السلطة التشريعية والتنفيذية. إن فعلوا فستكون من جانبهم حركة شريفة تسهم مع باقي المساعي في عملية إنقاذ تحتاجها تونس أشد الحاجة.